نَعْرِضُ هُنَا أَعْجَازَ أَبْيَاتِ شِعْرٍ لِأَبِي الطَّيِّبِ الْمُتَنَبِّي، سَارَتْ أَمْثَالاً، فَقَدْ أَقَرَّ مُحِبُّوهُ وَمُبْغِضُوهُ بِأَنَّ مِنْ مَزَايَا شِعْرِ أَبِي الطَّيِّبِ إِرْسَالَ الْمَثَلِ فِي أَنْصَافِ الْأَبْيَاتِ.
******
(154) إِنَّ القَلِيلَ مِنَ الحَبِيبِ كَثِيرُ
إِنَّ الْمُتَنَبِّيَ فِي هَذَا الشَّطْرِ يُسَلِّطُ الضَّوْءَ الْكَاشِفَ عَلَى الْآلِيَّةِ الَّتِي يُعِيدُ بِهَا الْحُبُّ سَكَّ الْقِيَمِ وَالْمَقَامَاتِ وَالْقِيَاسَاتِ وَالْمَعَايِيرِ. كَأَنَّمَا يُوحِي الْحُبُّ لِمَنْ يَنْضَوِي تَحْتَ جَنَاحِهِ بِأَنَّهُ دَخَلَ مَدِينَةً تَحْكُمُهَا مَقَايِيسُ خَاصَّةٌ لَا عَلَاقَةَ لَهَا بِمَقَايِيسِ الْآخَرِينَ، خَارِجَ أَسْوَارِ مَدِينَةِ الْحُبِّ هَذِهِ.
إِنَّهَا مَدِينَةٌ لَهَا اسْتِقْلَالِيَّتُهَا، وَشَخْصِيَّتُهَا، وَكَيْنُونَتُهَا، وَحِسَابَاتُهَا، وَمَعَايِيرُهَا، وَمَقَايِيسُهَا، خَاصَّةٌ بِهَا، لَا تُشْبِهُ غَيْرَهَا، وَمِنْ ذَلِكَ مِقْدَارُ الْقَلِيلِ إِذَا كَانَ مَصْدَرُهُ مِنَ الْحَبِيبِ، وَهُوَ مَا يُسَاوِي الْكَثِيرَ فِي الْقِيَاسَاتِ الْأُخْرَى. اتَّفَقَتْ أُمَمُ الْأَرْضِ عَلَى أَنَّ الْقَلِيلَ فِي الْمَوَازِينِ الِاعْتِيَادِيَّةِ، يَكَادُ لَا يُسَاوِي شَيْئاً، وَلَا يُعْبَأُ بِهِ فِي الْمَقَايِيسِ التَّقْلِيدِيَّةِ، لَكِنَّ هَذَا الْقَلِيلَ ذَاتَهُ اكْتَسَبَ، لِأَنَّهُ مِنَ الْحَبِيبِ، قِيمَةً حَوَّلَتْهُ مِنَ اقْتِرَابِهِ مِنَ اللَّا شَيْءِ إِلَى الْقِيمَةِ الْمُضَادَّةِ، وَهِيَ الْكَثْرَةُ وَالْوُفْرَةُ وَالزِّيَادَةُ وَالِامْتِلَاءُ! لَقَدِ اسْتَخْدَمَ الْمُتَنَبِّي فِي هَذَا الشَّطْرِ، كَلِمَتَيْنِ مُتَضَادَّتَيْنِ هُمَا: (قَلِيلٌ)، وَ(كَثِيرٌ)، وَيَبْدُو أَنَّهُمَا مِنَ التَّضَادِّ لِدَرَجَةِ التَّنَافُرِ، إِذْ فَصَلَ الشَّاعِرُ بَيْنَهُمَا بِـ(الْحَبِيبِ)، كَمَا لَوْ كَانَ قُوَّاتِ سَلَامٍ تَفْصِلُ بَيْنَ عَدُوَّيْنِ. وَكَأَنَّ الْمُتَنَبِّيَ أَرَادَ بِوَضْعِ كَلِمَةِ (الْحَبِيبِ) فِي الْمُنْتَصَفِ بَيْنَ الْمُتَضَادَّيْنِ فِي مَعْنَاهُمَا؛ (قَلِيلٌ) وَ(كَثِيرٌ)، أَنْ يُؤَكِّدَ، بِالشَّكْلِ وَالْمَبْنَى، ذَاتَ دَلَالَةِ الْمَعْنَى، فَيَقُولُ إِنَّ (الْقَلِيلَ) عَبْرَ الْكَلِمَةِ التَّالِيَةِ لَهُ وَبِمُجَرَّدِ مُرُورِهِ بِهَا، وَهِيَ (الْحَبِيبُ)، يُصْبِحُ فِي قِيَاسِهِ الْعَدَدِيِّ وَالْقِيَمِيِّ مِثْلَ الْكَلِمَةِ التَّالِيَةِ: (كَثِيرٌ)! وَتَجِيءُ (إِنَّ) فِي صَدْرِ الشَّطْرِ، وَقَبْلَ الْمُعَادَلَةِ السَّابِقَةِ، كَمَا لَوْ كَانَتِ الْفَرَمَانَ الَّذِي صَدَرَ مِنْ دَوْلَةِ الْحُبِّ تَشْرِيعاً وَإِعْلَاناً وَبَيَاناً لِهَذَا الْمِعْيَارِ وَالْمِقْيَاسِ!
******
(155) إِنَّ النُّفُوسَ عُدَدُ الآجَالِ
شَطْرُ بَيْتِ أَبِي الطَّيِّبِ الْمُتَنَبِّي هَذَا مِنَ الْأَنْصَافِ الَّتِي ذَهَبَتْ مَثَلاً قَالَ أَبُو الْفَتْحِ عُثْمَانُ بْنُ جِنِّي: «قَوْلُهُ: إِنَّ النُّفُوسَ عُدَدُ الْآجَالِ؛ مِنَ الْكَلَامِ الَّذِي يُرْسِلُهُ أَمْثَالاً، وَقَدْ فَصُحَ فِيهِ وَأَجَادَهُ».
النُّفُوسُ: جَمْعُ نَفْسٍ. وَالنَّفْسُ: هِيَ الرُّوحُ. عُدَدُ: أَيِ الْمُعَدَّةُ وَالْمُهَيَّأَةُ وَالْمُجَهَّزَةُ لِلْآجَالِ، حِينَمَا يَحِينُ وَقْتُ نُزُولِ هَذِهِ الْآجَالِ فِي النُّفُوسِ.
الْآجَالُ: جَمْعُ أَجَلٍ. وَالْأَجَلُ: نِهَايَةُ الْوَقْتِ الْمُحَدَّدِ، وَفِي شَأْنِ الْحَيَاةِ، الْأَجَلُ هُوَ أَدَاةُ إِنْهَاءِ حَيَاةِ النُّفُوسِ وَإِنْزَالِ الْمَوْتِ بِهَا. وَالْآجَالُ هِيَ الْمُوَكَّلَةُ بِقَبْضِ النُّفُوسِ، وَالْإِيذَانِ بِإِنْهَاءِ عَمَلِهَا، وَنِهَايَةِ وَظِيفَتِهَا، وَقَدْ خَلَقَ اللهُ كُلَّ شَيْءٍ وَأَوْكَلَهُ بِوَظِيفَتِهِ، لِيَقُومَ بِهَا، فِي تَنْظِيمٍ دَقِيقٍ مُتْقَنٍ.
وَضِمْنَ هَذَا النِّظَامِ اسْتِعْدَادُ النُّفُوسِ لِلْآجَالِ، وَإِنْ كَانَتِ الْآجَالُ تُنْزِلُ بِالنُّفُوسِ حَتْفَهَا، لَكِنَّهُ النِّظَامُ الْكَوْنِيُّ الَّذِي أَبْدَعَهُ الْخَالِقُ سُبْحَانَهُ.
قَالَ الشَّاعِرُ:
وَكُلُّ يَوْمٍ مَضَى أَوْ لَيْلَةٍ سَلَفَتْ * فِيهَا النُّفُوسُ إِلَى الْآجَالِ تَزْدَلِفُ
أَيْ: كُلَّمَا تَقَادَمَ الزَّمَانُ بِانْقِضَاءِ يَوْمٍ أَوْ لَيْلَةٍ فَإِنَّ هَذَا التَّقَدُّمَ فِي الْوَقْتِ يَجْعَلُ النُّفُوسَ تَزْدَلِفُ (أَيْ: تَقْتَرِبُ مِنَ الْآجَالِ وَتَسْتَعِدُّ وَتَتَهَيَّأُ لَهَا).
وَبَيْتُ الشِّعْرِ ذَكَرَتْهُ كُتُبُ تَفْسِيرٍ مُتَعَدِّدَةٌ، بِلَا نِسْبَةٍ إِلَى شَاعِرٍ، فَمِمَّنْ أَوْرَدَهُ:
تَفْسِيرُ الْمَاوَرْدِيِّ (ت 450 هـ)، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ أَوْرَدَ الْبَيْتَ بِالنَّظَرِ إِلَى تَقَدُّمِ وَفَاتِهِ.
وَالتَّفْسِيرُ الْبَسِيطُ لِلْوَاحِدِيِّ (ت 468 هـ).
وَتَفْسِيرُ السَّمْعَانِيِّ (ت 489 هـ).
وَأَسَاسُ الْبَلَاغَةِ لِلزَّمَخْشَرِيِّ (ت 538 هـ).
وَتَفْسِيرُ الرَّازِيِّ (ت 606 هـ).
وَتَفْسِيرُ الْقُرْطُبِيِّ (ت 671 هـ).
وَفَتْحُ الْقَدِيرِ لِلشَّوْكَانِيِّ (ت 1250 هـ).
وَأَيْسَرُ التَّفَاسِيرِ لِأَبِي بَكْرٍ الْجَزَائِرِيِّ (ت 1439 هـ).
وَتَفْسِيرُ حَدَائِقِ الرُّوحِ وَالرَّيْحَانِ لِمُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الْهَرَرِيِّ (ت 1441 هـ).
وَصَفْوَةُ التَّفَاسِيرِ لِمُحَمَّدٍ عَلِيٍّ الصَّابُونِيِّ (ت 1442 هـ).
وَلَيْسَ فِيهِمْ مَنْ ذَكَرَ الْبَيْتَ مَنْسُوباً لِشَاعِرٍ، مِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ تَتَابَعُوا فِي النَّقْلِ عَنْ بَعْضِهِمُ الْبَعْضِ، عَلَى مَدَى عَشرَةِ قُرُونٍ، مُنْذُ مُنْتَصَفِ الْقَرْنِ الْهِجْرِيِّ الْخَامِسِ، وَحَتَّى قُبَيْلَ مُنْتَصَفِ الْقَرْنِ الْهِجْرِيِّ الْخَامِسَ عَشَرَ.
وَأَوْرَدَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا (ت 281 هـ)، بِلَا نِسْبَةٍ، قَوْلَ الشَّاعِرِ:
إِنَّا لَنَفْرَحُ بِالْأَيَّامِ نَقْطَعُهَا * وَكُلُّ يَوْمٍ مَضَى يُدْنِي مِنَ الْأَجَلِ
وَقَالَ طَرَفَةُ:
أَرَى الْمَوْتَ أَعْدَادَ النُّفُوسِ وَلَا أَرَى * بَعِيداً غَداً، مَا أَقْرَبَ الْيَوْمَ مِنْ غَدِ!