وَمَا زِلْنَا نَعْرِضُ أَعْجَازَ أَبْيَاتِ شِعْرٍ لِأَبِي الطَّيِّبِ الْمُتَنَبِّي، سَارَتْ أَمْثَالاً، فَقَدْ أَقَرَّ الْمُحِبُّ وَالْمُبْغِضُ بِأَنَّ مِنْ مَزَايَا شِعْرِ أَبِي الطَّيِّبِ، إِرْسَالَ الْمَثَلِ فِي أَنْصَافِ الْأَبْيَاتِ…
(147) وَمَـا التَّـأْنِـيْـثُ لاسْـمِ الشَّمْـسِ عَيْـبٌ
(148) وَلَا الـتَّــذْكِــيْــــرُ فَــخْــــرٌ لِــلْــهِــلَالِ
يُؤكد المتنبي في هذين الشطرين الشعريين، قاعدةً من قواعدِ الحياةِ، وأصلاً من أصول العيش، عندما يُخبر بلغة قاطعة أن الجنسَ البشريَّ بِشِقَّيهِ: الذكرِ والأنثى يتكاملان في هذه الحياة، ويعضد كلُ واحدٍ منهما الآخر، ولا نقيصة في أحدهما مقابل الآخر، والعكس بالعكس.
وبذكاء غير مستغرب، يستخدم أبو الطَّيِّبِ للدلالة على صحة مقولته مثلاً لا يترك مجالاً لدى السامع للشَّكِ في صواب أطروحته، في الشطر الأول. يقول: إن الشمس التي تشكل ركناً من أركان الكون، لم يَكُن تأنيثها عيباً في يوم من الأيام، ولم يقل عاقل إن كون اسم الشمس مؤَنَّثاً يستدعي التنقيص من قيمتها، والوقوف موقف الرفض تجاه هذه الشمس، والاعتراض على وظائفها، أو مقاطعتها بأي شكل من الأشكال، وهو أمر فيه من الحمق والجهل ما يمنع مجرد التفكير به.
وفي الشطر الثاني، يؤكد الفكرةَ ذاتها مع النصفِ الآخرَ للإنسان، الذكر، معتبراً أن تذكيرَ الهِلال ليسَ فَخْراً له، كما أنَّ التأنيثَ ليس عيباً للشمس! يقول الله تعالى في كتابه الكريم: (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا). وتأمل لطف التعبير القرآني في قوله تعالى (ليسكن إليها)، فأكد الله سبحانه أنه خلقنا، ذَكرنَا وأُنثانا، من نفس واحدة، ومن هذه النفس جعلَ منها زوجَها، وعلّل ذلكَ بقولِه: (ليسكن إليها)، والسكن مُشتَّقٌ من السكينة، وهي غايةُ الطمأنينة مصحوبة بالأُنس والإيناس، إذ تكون الزوجةُ سكناً للذكر يسكنُ إليها، والعكسُ بالعكسِ، ومع طمأنينة السكون يكون الاستئناسُ والأنسُ فلا يجفل جنسٌ من الآخر، وفي هذا الأُنس تواصلٌ يضمن البقاءَ والتكاثرَ وتحقيقَ الوظيفةِ الأعظم في هذه الدنيا، وهي صناعة الإنسان، ببناء عائلةٍ متوازنةٍ يخرجُ منها أُناسٌ أسوياءٌ، يعمِّرون الأرض، ويضمنون نشر الفضائل، ويبثونَ مكارمَ الأخلاق، التي قال عنها النبي صلى الله عليه وسلم: «إنما بُعِثتُ لأُتِممَّ مَكَارِمَ الأَخلاق».
إن هذه المهام الجليلة لا يمكن أن تتحققَ إلا على الأساسِ الذي خلق اللهُ الناسَ عليه، بقوله سبحانه: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ).
يكرر الله تعالى خطابه للناس ليتدبروا هذه الآيات الربانية العظيمة، بداية من خلقهم من نفس واحدة، ثم جعل منها زوجها وهي الأنثى ليسْكُنَ إليها الذَكَرُ وتسْكُنَ إليه، وهنا يخاطب الجنس البشري (الناس) خطاباً عامَّـاً، ثم يبيِّن فيه أنه خلقهم من ذكرٍ وأنثى، في أبلغ دليل على عدم تفضيل جنسٍ على آخر، وتُختم الآية بالدلالة القطعية على ما سبق، إذ يُعلِن الله تعالى مقياس التفاضل والتميز عنده جل وعلا، بقوله: (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ). إذاً هذا هو الفخر الحقيقي، ونقصه هو العيب المُعِيب، فالتقوى هي ما يحقق الفخر، لأن زيادة التقوى تجعل الأتقى هو الأكرم عند الله تعالى، كما في الآية السابقة.
يقول سبحانه في آية أخرى: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ).
وقوله: (وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً)، فقد جعل سبحانه المودة تتحقق بينكم بالتزاوج والتناسب… إنها (رَحْمَة) رحمكم الله بها، إذ يتلطف بعضكم على بعض ويعطف ويحن ويرحم بعضكم بعضا، (إنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ).
وما مضى هو ما يجعلني أقول إن المتنبي تناول موضوع التذكير والتأنيث بذكاء ولطف، عندما قال:
وَمَا التَّأنِيثُ لَاسْمِ الشَّمْسِ عَيْبٌ * ولَا التَّذْكِيرُ فَخْرٌ للهِلَالِ
ولا يناسب جمال شعر أبي الطيب، إلا جلال كلام عبدالقاهر الجرجاني، الذي تناول بيتنا بشرح بديع في (أسرار البلاغة)، فقال: «إنه احتجاج عَقْلي صحيح، قولُ المتنبي:
وَمَا التأنيثُ لاسم الشمسِ عَيْبٌ * ولا التذكيرُ فخرٌ للهلال
فحقّ هذا أن يكون عنوانَ هذا الجنس، وفي صدر صحيفته، وطِرازاً لديباجته، لأنه دفعٌ لنقص، وإبطالٌ له، من حيث يَشْهَدُ العقل للحُجَّة التي نطق بها بالصّحة، وذلك أن الصِّفات الشريفةَ شريفةٌ بأنفُسها، وليس شرفُها من حيث الموصوف، وكيف والأوصاف سبب التفاضُل بين الموصوفات، فكان الموصوفُ شريفاً أو غيرَ شريف من حيث الصفة، ولم تكن الصفة شريفةً أو خسيسةً من حيث الموصوف، وإذا كان الأمر كذلك وجب أن لا يعترض على الصفات الشريفة بشيءٍ إن كان نقصاً، فهو في خارج منها، وفيما لا يرجع إليها أنفُسِها ولا حقيقتها، وذلك الخارج ها هنا هو كون الشخص على صورةٍ دون صورة، وإذا كان كذلك، كان الأمر: مقدارُ ضَرَر التأنيث إذا وُجد في الخلقة على الأوصاف الشريفة، مقدارُه إذا وُجد في الاسم الموضوع للشيء الشريف، لأنه في أَنْ لا تأثير له من طريق العقل في تلك الأوصاف في الحالين على صورة واحدة؛ لأن الفضائل التي بها فُضِّل الرجل على المرأة، لم تكن فضائلَ لأنها قارنت صورة التذكير وخِلْقته، ولا أوجبت ما أوجبت من التعظيم لاقترانها بهذه الخلقة دون تلك، بل إنما أوجبته لأنفُسِها ومن حيث هي، كما أنّ الشيء لم يكن شريفاً أو غيرَ شريفٍ من حيث أُنِّثَ اسمُه أو ذُكِّرَ، بل يثبُتُ الشرفُ وغيرُ الشرف للمسمَّيات من حيث أنفسها وأوصافها، لا من حيث أسمائها، لاستحالة أن يتعدَّى من لفظٍ، هو صوتٌ مسموعٌ، نقصٌ أو فضلٌ إلى ما جُعل علامةً له، فاعرفه».