وَمَا زِلْنَا نَعْرِضُ أَعْجَازَ أَبْيَاتِ شِعْرٍ لِأَبِي الطَّيِّبِ الْمُتَنَبِّي، سَارَتْ أَمْثَالاً، فَقَدْ أَقَرَّ الْمُحِبُّ وَالْمُبْغِضُ بِأَنَّ مِنْ مَزَايَا شِعْرِ أَبِي الطَّيِّبِ، إِرْسَالُ الْمَثَلِ فِي أَنْصَافِ الْأَبْيَاتِ…
(143) وَتَأْبَى الطِّبَاعُ عَلَى النَّاقِلِ
الطِّبَاعُ وَالطَّبِيعَةُ وَالطَّبْعُ: بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَهُوَ الْخَلِيقَةُ وَالسَّجِيَّةُ الَّتِي جُبِلَ الإِنْسَانُ عليها.
الطَّبِيعَةُ لَا تَنْقَادُ لِنَاقِلِهَا، وَلَا تَتَأَتَّى لِمُخَالِفِهَا. فالطِّبَاعُ غَالِبَةٌ، وَفِي الْأَمْثَالِ الْمَحَلِّيَّةِ: «الطَّبْعُ غَلَّابٌ». وَغَلَّابٌ أَقْوَى مِنْ غَالِبٍ.
وَعِنْدَ الْفُقَهَاءِ، قاعِدَةٌ تَقُولُ: «الْعَادَةُ مُحَكَّمَةٌ»، فِي تَأْكِيدِ تَغَلْغُلِهَا وَتَجَذُّرِهَا، كما أنها مُعْتَبَرَةٌ في النَّظَرِ الفِقْهِيِّ.
يَقُولُ الْمَثَلُ الشَّعْبِيُّ: «حَدِّرْ جبَل وَلَا تحَدِّرْ طَبِيعَة». أَيْ: تَسْتَطِيعُ أَنْ تُزِيلَ جَبَلًا رَاسِياً، لَكِنَّكَ لَا تَسْتَطِيعُ أَنْ تُزِيلَ طَبِيعَةً إِنْسَانِيَّةً.
وَالْمَقْصُودُ بِالطَّبِيعَةِ، الطَّبْعُ. يُقَالُ: «الطَّبْعُ يَغْلِبُ التَّطَبُّعَ».
قَالَ مُحَمَّدُ الطَّاهِرُ بْنُ عَاشُورٍ: «الْخُرُوجُ إِلَى مَا لَيْسَ فِي الْعَادَةِ أَوِ الطَّبْعِ؛ سَمَّاهُ خُرُوجاً؛ لِأَنَّهُ مُخَالَفَةٌ لِصِحَّةِ الْكَلَامِ، فَكَأَنَّ صَاحِبَهُ خَرَجَ مِنْ حَظِيرَةِ مَعَانِي الشِّعْرِ إِلَى الْهَوَسِ، وَهُوَ يَرْجِعُ إِلَى الْخَطَأِ فِي الْمَعَانِي. مِثَالُ الْخُرُوجِ إِلَى مَا لَيْسَ فِي الْعَادَةِ قَوْلُ أَبِي الطَّيِّبِ:
يُرَادُ مِنَ الْقَلْبِ نِسْيَانُكُمْ * وَتَأْبَى الطِّبَاعُ عَلَى النَّاقِلِ
إِذْ لَيْسَ مِنْ عَادَةِ الْمُحِبِّينَ الرَّغْبَةُ فِي نِسْيَانِ الْأَحْبَابِ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ الَّذِي أَرَادَ مِنْهُ ذَلِكَ غَيْرَ نَفْسِهِ، فَتَأَمَّلْهُ!».
وَنَحْوُهُ، قَوْلُ الْعَبَّاسِ بنُ الأَحْنَفِ:
لَا تَحْسَبَنِّي عَنْكُمُ مُقْصِراً * إِنِّي عَلَى حُبِّكُمْ مَطْبُوعُ
قَالَ عَبْدُ الْقَاهِرِ الْجُرْجَانِيُّ فِي (دَلَائِلِ الْإِعْجَازِ): «تَنْظُرُ إِلَى قَوْلِ النَّاسِ: «الطَّبْعُ لَا يَتَغَيَّرُ»، وَ«لَسْتَ تَسْتَطِيعُ أَنْ تُخْرِجَ الْإِنْسَانَ عَمَّا جُبِلَ عَلَيْهِ»، فَتَرَى مَعْنًى غَفْلاً عَامِّيّاً مَعْرُوفاً فِي كُلِّ جِيلٍ وَأُمَّةٍ، ثُمَّ تَنْظُرُ إِلَيْهِ فِي قَوْلِ الْمُتَنَبِّي:
يُرَادُ مِنَ الْقَلْبِ نِسْيَانُكُمْ * وَتَأْبَى الطِّبَاعُ عَلَى النَّاقِلِ
فَتَجِدُهُ قَدْ خَرَجَ فِي أَحْسَنِ صُورَةٍ، وَتَرَاهُ قَدْ تَحَوَّلَ جَوْهَرَةً بَعْدَ أَنْ كَانَ خَرَزَةً، وَصَارَ أَعْجَبَ شَيْءٍ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً».
قَالَ أَرِسْطُو: رَوْمُ نَقْلِ الطِّبَاعِ عَنْ رَدِيِّ الْأَطْمَاعِ، شَدِيدُ الِامْتِنَاعِ.
فِي (مُحَاضَرَاتِ الْأُدَبَاءِ)، لِلرَّاغِبِ الْأَصْفَهَانِيِّ:
قِيلَ: لِلْعَادَةِ عَلَى كُلِّ إِنْسَانٍ سُلْطَانٌ، وَكُلُّ امْرِئٍ جَارٍ عَلَى مَا تَعَوَّدَ، وَقِيلَ: لِكُلِّ كَرِيمٍ عَادَةٌ يَسْتَعِيدُهَا، وَقِيلَ: اللِّسَانُ مُتَقَاضِيكَ مَا عَوَّدْتَهُ.
وَقَالَتِ الْحُكَمَاءُ: الْعَادَةُ طَبِيعَةٌ ثَانِيَةٌ.
قَالَ الْخُبْزَآرَزِيُّ:
يُعَابُ الْفَتَى فِيمَا أَتَى بِاخْتِيَارِهِ * وَلَا عَيْبَ فِيمَا كَانَ خُلْقاً مُرَكَّباً
قَالَ زُهَيْرٌ:
وَمَهْمَا تَكُنْ عِنْدَ امْرِئٍ مِنْ خَلِيقَةٍ * وَإِنْ خَالَهَا تَخْفَى عَلَى النَّاسِ تُعْلَمِ
أَيْ إِنَّ أَخْلَاقَ الْإِنْسَانِ وَسَجَايَاهُ لَا يُمْكِنُ إِخْفَاؤُهَا، فَهِيَ سَتُعْلَمُ وَتَظْهَرُ لِلنَّاسِ، فَيَكُونُ إِخْفَاؤُهَا لَا حَاصِلَ مِنْهُ، وَلَا نَفْعَ، وَلَا طَائِلَ مِنْ وَرَائِهِ.
وَقَالَ الْمُتَنَبِّي:
وَلِلنَّفْسِ أَخْلَاقٌ تَدُلُّ عَلَى الْفَتَى * أَكَانَ سَخَاءً مَا أَتَى أَمْ تَسَاخِيَا
وفي الْحَثُّ عَلَى مُلَازَمَةِ الْعَادَةِ الْحَسَنَةِ؛ لَامُوا عَلَى الْجُودِ وَالْكَرَمِ، جَعْفَرَ بْنَ مُحَمَّدٍ، فَقَالَ: «إِنَّ اللهَ عَوَّدَنِي عَادَةً وَعَوَّدْتُهُ عَادَةً فَأَخَافُ أَنْ يَقْطَعَ عَنِّي عَادَتَهُ إِنْ قَطَعْتُ عَادَتِي».