وَمَا زِلْنَا نَعْرِضُ أَعْجَازَ أَبْيَاتِ شِعْرٍ لِأَبِي الطَّيِّبِ الْمُتَنَبِّي، سَارَتْ أَمْثَالاً، فَقَدْ أَقَرَّ الْمُحِبُّ وَالْمُبْغِضُ بِأَنَّ مِنْ مَزَايَا شِعْرِ أَبِي الطَّيِّبِ، إِرْسَالُ الْمَثَلِ فِي أَنْصَافِ الْأَبْيَاتِ…
(144) وَفِي عُنُقِ الحَسْنَاءِ يُسْتَحْسَنُ العِقْدُ
في هذا الشطر من البيتِ يُبَيِّنُ أَبُو الطَّيِّبِ المُتَنَبِّي قَاعِدَةً حَيَاتِيَّةً، مَفَادُهَا أَنَّ الأَشيَاءَ لَا تَحْسُنُ إِلَّا فِي أَمَاكِنِهَا، حَيْثُ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ، وَكُلُّ شَيءٍ يُوْضَعُ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ يَفْقِدُ مِيْزَتَهُ، وَيَذْهَبُ عَنْهُ حُسْنُهُ.
العُنُقُ: هُوَ مَا يَصِلُ الرَأسَ بِالْجَسَدِ، ويُذَكَّرُ وَيُؤَنَّثُ. والمُعَانَقَةُ وَالعِنَاقُ، أَنْ يَجْعَلَ يَدَهُ عَلَى عُنُقِ أَحَدِهِم ويُدْنِي عُنُقَهُ مِنْ عُنُقِ الآَخَرِ وَيَضُمَّهُ إِلَى صَدْرِهِ، حُبَّـًا وَمَوَدَّةً، فَيَكُون بِذَلِكَ قَدْ عَانَقَهُ.
والعُنُقُ هُوَ الجِيْدُ، وَقِيْلَ: الجِيْدُ طَوِيلُ العُنُقِ، وَمِنْ أَسمَاءِ العُنُقِ: الرَقَبَة.
الحَسْنَاءُ: حَسَنَةُ الخَلْقِ، جَمِيلَةٌ، وَسِيمَةٌ، مَلِيحَةُ القَسَمَاتِ.
العِقْدُ: (ع ق د): عِقْد [مفرد]، جمعه عُقود: قِلادَةٌ أو خيطٌ يُنظَمُ فيهِ الخَرَزُ ونحوُه وَيُحِيطُ بِالعُنُقِ «عِقْدٌ لُؤلؤيٌّ- عُقُودُ الذَّهَبِ والمُرجَانِ». اِنْفَرَطَ عِقْدُهُم: تفرَّقوا واختلفوا، تشتَّتوا- واسطةُ العِقْد: أكبرُ خرزاته وأثمنُها، تُطْلَق على أهمِّ شيء بين مجموعة أشياء.
(معجم اللغة العربية المعاصرة)، الدكتور أحمد مختار عمر. مادة: (ع ق د).
يَقُولُ أَبُو الأَسْوَدِ الدُؤَلِيِّ:
كَضَرَائِرِ الحَسْنَاءِ قُلْنَ لِوَجْهِهَا * حَسَداً وَبَغْيَـاً إِنَّهُ لَدَمِيْمُ
ضَرَائِرُ: جمع ضَرَّةٍ وهي الزوجة الأُخرَى للزوجة الأُولى، والعكسُ بالعكسِ. وقُلنَ لوجهها: أي قُلنَ عن وجهها. ودَمِيْمٌ: قَبِيْحٌ.
والمَعْنَى: لَا يُسْتَحْسَنُ (أَي: يُعَدُّ حَسَناً) العِقْدُ إِلَّا فِي جِيْدِ (عُنُقِ) الجَمِيلَةِ الحَسْنَاءِ، فَإِنَّ ذَلِكَ يَزِيْدُ العُنُقَ جَمَالًا وَحُسْنًا، وَيَزِيْدُ جَمَالَ وَحُسْنَ العِقْدِ أَيْضَاً.
وهكذا يُسْتَحْسَنُ وَضْعُ الشَّيءِ فِي مَوْضِعِهِ.
وفي ذلك يقولُ المتنبي، في بيتٍ من قلائدِ شِعْرِهِ:
وَوَضْعُ النَّدَى فِي مَوْضِعِ السَّيْفِ بِالعُلَا * مُضِرٌّ كَوَضْعِ السَّيْفِ فِي مَوْضِعِ النَّدَى
(145) وَمَنْ وَجَدَ الإِحْسَانَ قَيْداً تَقَيَّدَا
وهذا العَجُزُ مِنْ قَلَائِدِ فَرَائِدِ أَبِي الطَّيِّبِ المُتَنَبِّي، المُطَرَّزَةِ بِرَشَادِ الحِكْمَةِ، فَأَضْحَى مَثَلًا سَائِرًا بَيْنَ النَّاسِ، عَلَى اِخْتِلَافِ مَشَارِبِهِم، وتََبَايُنِ اهْتِمَامَاتِهِم.
وَأَوْرَدَ الشَطْرَ أَبُو بَكْرٍ الخَوَارِزْمِيَّ في (الأَمْثَالِ المُوَلَّدَةِ)، وَذَكرَ بَيْتَ العَجُزِ الصَّاحِبُ بنُ عَبَّادٍ في (الأمثال السائرة من شعر المتنبي)، وَالقَاضِي الجُرْجَانِيُّ في (الوساطة بين المتنبي وخصومه)، وَأَبُو مَنْصُورٍ الثَعَالِبِيُّ في (التمثيل والمحاضرة)، و(يتيمة الدهر)، و(المُنتَحل) في باب الأمثال والحِكَم والآداب. أَمَّا في (أمالي ابن الشجري) فَذَكَرَ العَجُزَ ضِمْنَ أَمثَالٍ وَرَدَت لِأبِي الطَّيِّبِ فِي أَعْجَازِ أبياتٍ، كَمَا أَوْرَدَهُ ابنُ شَمْسِ الخِلَافَةِ فِي (الآداب النافعة بالألفاظ المختارة الجامعة) في باب الأمثالِ في أعجازِ الأبيات. وغيرهم كثيرٌ.
قَالَ الثَعَالِبِيُّ في (اليتيمة)، عَنْ بَيتِ القَصِيدِ لِأَبِي الطَّيِّبِ:
«هَذَا الْبَيْتُ مِنْ قَلَائِدِهِ، وَإِنَّمَا أَلَمَّ فِيْهِ بِقَوْلِ أَبِي تَمَّامٍ:
هِمَمِي مُعَلَّقَةٌ عَلَيْكَ رِقَابُهَا * مَغْلُوْلَةٌ إِنَّ الْوَفَاءَ إِسَارُ
وَلَكِنَّهُ أَخَذَهُ عَبَاءَةً وَرَدَّهُ دِيبَاجَةً، وَأَرْسَلَهَا مَثَلًَا سَائِرًَا…».
يُقَدِّمُ أَبُو الطَّيِّبِ في عَجُزِ بَيتِهِ، مُقَدِمَةً يَبْنِي عَلَيهَا نَتِيجَةً، وَالمُقَدِّمَةُ هِيَ أَدَاةُ الشَّرْطِ: «مَنْ»، وَالشَّرْطُ فِي قَوْلِهِ: «وَمَنْ وَجَدَ الإِحْسَانَ قَيْداً»، وَالنَتِيْجَةُ، قَوْلُهُ: «تَقَيَدَا»، وَهُوَ جَوَابٌ لِلشَّرْطِ، أَيْ أَنَّ مَنْ يَجِدُ أَنَّ الإِحْسَانَ إِلَيْهِ يُقَيِّدُهُ بِفَضْلِ المُحْسِنِ رَضِيَ وَسَلَّمَ وَقَبِلَ بِهَذَا القَيْدِ، وَإِنْ كَانَ القَيْدُ فِي أَصْلِهِ مَمَّا يَأْنَفُهُ الحُرُّ، وَيَمُجُّهُ الشَّرِيْفُ، لَكِنَّ فَضْلَ الإِحْسَانِ يَجْعَلُ الأَحْرَارَ وَالأَشْرَافَ، بِمَا يَدِيْنُوْنَ بِهِ مِنْ دَيْنِ الإِحْسَانِ، يَقْبَلُوْنَ بِمَا كَانُوا يَرْفُضُوْنَ، وَيُقِرُّوْنَ بِمَا كَانُوْا يَسْتَنْكِرُوْنَ.
وَمِنْ عَجَائِبِ اللُّغَةِ أَنَّ الأَصْفَادَ: هِيَ القُيُوْدُ، وَاحِدُهَا: صَفَدٌ، وَصَفْدٌ، وَيُقَالُ: صَفَّدْتُهُ صَفْداً؛ أَيْ: قَيَّدْتُهُ، وَالاسْمُ الصَّفَدُ، وَأَصْفَدْتُهُ إِصْفَاداً: أَعْطَيْتُهُ. وَقِيْلَ: صَفَدْتُهُ، وَأَصْفَدْتُهُ، جَارِيَانِ فِي القَيْدِ والإِعْطَاءِ جَمِيْعَاً، فَالصَّفَدُ: العَطَاءُ؛ لِأَنَّهُ يُقَيِّدُ وَيُوْثِقُ…
قَالَ أَبُو الطَّيِّبِ:
وَمَنْ وَجَدَ الإِحْسَانَ قَيْدًا تَقَيَّدَا