في مقدمة كتابه الجديد(قال لي القصيبي)، يؤكد الكاتب والإعلامي السعودي تركي الدخيل أن الإبحار في كل ماكتبه القصيبي عن نفسه يُغني أي باحث عن أي مصادر أخرى لاكتشاف غازي الإنسان بكل جوانبه، حتى تلك الجوانب الخفية المعتمة التي يتفادى كثير من الأدباء والمثقفين عدم مقاربتها، أو يكتفون بإشارة عابرة إليها عند الضرورة، تصنع هالة من الغموض وتثير الفضول عند القاريء، أكثر من أن تقدم إجابة. كان القصيبي راضياً بما وصل إليه، مطمئناً لمسار حياته، وقد ذكر مرة بأنه لو ولد من جديد، لاختار أن يبدأ القصة نفسها، وأن يولد بالاسمِ نفسه، في ظلّ الظروف نفسها، “فحياتي بفضل الله ممتلئةٌ وسعيدة ومثيرة”.
من هذا الرضى الغامر انطلق الدخيل في كتابه ليمسك بالعوامل الجلية والخفية التي صنعت قصة القصيبي و” أسطورته”. “كان هو الأكثر تأثيراً وإلهاماً لجيلٍ نشأ في مناخٍ سياسي واجتماعي وثقافي، كان غازي حاضراً في كل منعطفاته التاريخية السياسية والاجتماعية خلال خمسين عاماً، وليس غريباً أن يحتلُّ مكانةً متقدمةً في قائمة عظماء السعودية”.
رحلة الدخيل لاكتشاف غازي، تمثلت في مقدمته الطويلة بجزأيها، التي جعلها بين يدي ثلاثة حوارات أجراها معه على قناة العربية منذ 2004 حتى منتصف 2007، حيث قسمها إلى جزأين، جزء مصدره الوحيد غازي شعره ونثره وحوارته، والجزء الثاني شهادات أصدقائه وزملائه ومحبيه، ومثلت المقدمة غوصاً في عشرات المؤلفات والحوارات التي نثر القصيبي فيها شعره ونثره وأفكاره الدينية والفلسفية والتنموية، أبرزت موقفه من الشهرة وأناه بـ”وجوهها الاثني عشر” كما كان يحب القصيبي أن يعبر، إلى منعطفات التحوّل الكبير في فكر القصيبي السياسي بعد هزيمة 1967، وهو تحول قصيبيٌّ عميق ، كانت العقود الأربعة اللاحقة تجلياً له ممارسة وفكراً.
رفضه التعصّب للأفكار، من فترة مبكرة أثناء إعداده لرسالة الماجستير، وسخريته من العنصرية القبلية والإقليمية والطائفية إلى إدانته للتعصب ضد العمالة المقيمة العربية والأجنبية، واكتشافه للموهبة الإدارية في سن مبكرة؛ كلها مواضيع شغلت مكاناً في كتاب (قال لي القصيبي). ويتوقف تركي الدخيل في مقدمته الطويلة عند أم غازي فاطمة آل كاتب، وقصة انتقالها الحزينة من الحجاز إلى الأحساء، حيث توفيت وهي في الثامنة والعشرين، ومن موقف طريف حكاه القصيبي عن شقيقه نبيل الذي كان يمازح جدته سعاد” لو كنت أعرف العروق التركية التي تجري في دمائي لقطعتها”، يجعل الدخيل منه دلالة واضحة على شجاعة غازي وثقته الكبيرة بنفسه، وتعاليه عن التمايزات الاجتماعية والتفاخر بالأنساب، حيث ينقل عن القصيبي في مقالةٍ نشرها في مجلة “العربية” أن جدهم الخامس كان ينتمي إلى بطنٍ من بطون بني خالد، ولكنه تزوج امرأةً مجهولة القبيلة، فخرج من عشيرته، أو أُخرج منها، يؤكد القصيبي :”أصبحنا منذ ذلك الحين من الخضيرية،…والخضيرية أكبر قبائل السعودية، وربما أنهم أكبر قبائل العالم”.
الحب في حياة غازي، حبه لزوجته سيغريت التي عبر عنها شعراً ونثراً أجاد الدخيل التقاط أشتاتها ونسج قصتها، من وقائع منثورة ومتفرقة في مؤلفات القصيبي ولقاءاته الصحفية والتليفزيونية، مثل قصته مع هيلموت كول المستشار الألماني بعد أن مازحه ولي العهد الأمير عبدالله بن عبدالعزيز_الملك عبدالله لاحقاً- وقال له” هل تعلم أن غازي متزوج من ألمانية؟”، إلى العرض الساخر الذي قدمه القصيبي للرئيس الأمريكي الأسبق جيمي كارتر، بأن يأذن له بالزواج من ثلاث أمريكيات من ديانات متعددة ليساهم في السلام العالمي. وإذا كان غازي يرى أن زوجته كانت دائما تقف خلفه ولا تحب الظهور ولا الإعلام إلا صورة واحدة يتيمة، نشرتها صديقة للعائلة في أيامه الأخيرة، فإن الدخيل يرى أن سيغريت هي سر نجاح زوجها وعظمته ولهذا اختار أن يهدي كتابه (قال لي القصيبي) إلى سيغريت. صرامة غازي مع أبنائه، وتحليله لشخصياتهم واحداً واحداً، وتأثير ذلك في تحديد كل واحد منهم لمستقبله الوظيفي. أحزان غازي، وآلامه، وشعوره بالفقد وفراق الأحباب، انكساراته والأهل يتناقصون ويرحلون تاركينه في معاناة مع أحزانه.الكثير من اللمحات النفسية والفلسفية، ونهاية الحياة وحقيقة الوجود، كلها كانت في مقدمة الكتاب. وكذلك وعي القصيبي أنه تحول إلى ملهم ونجم إعلامي تتبع الصحافة ذيله عبر أربعين عاماً، وتبعات النجومية على مساره الوظيفي، وآخر أيامه في وزارة الصحة.
يشير الدخيل بذكاء إلى السر في تردد غازي في حضور استقبال الأميرة ديانا في زيارتها لجمعية المعوقين في الرياض العام 1986، مستبعداً كل الحيل التي تحجج بها القصيبي، يقول الدخيل: ” كان غازي يومها سفيراً في البحرين، ولم يكن قد مضى أكثر من سنتين على قصيدته “رسالة المتنبي الأخيرة إلى سيف الدولة” وإعفائه إثرها من منصبه وزيراً للصحة، والقصيبي في حياة في الإدارة يرد سبب ما حصل إلى دور الصحافة والإعلام وصناعة النجم، ولكن يبدو لي أن آثار ذلك “الجرح” هي السبب الخفي لامتناعه في بداية الأمر من الحضور أثناء زيارة ديانا للجمعية. كان غازي يحتاج إلى وقت كاف للتعافي، لهذا كان احتلال الكويت بضخامته، من أكبر العوامل التي ضخت في روحه الرواء ومنحته الطاقة ليتجاوز آثار ماحصل”.
تأثير عبدالرحمن القصيبي في ابنه، واحترام غازي لأخيه الأكبر خليفة ، وإيمان القصيبي بالله الذي تجلى في أشعاره ومؤلفاته منذ منتصف تسعينيات القرن الماضي، وتنامي ذلك الحس في السنوات اللاحقة، وشهادات زملائه وأصدقائه.
وعن اختياره الكتابة في دراسات حول تفسير القرآن وفقه الشريعة، يقول الدخيل :” في رأيي أن كتابيه “من هم الشعراء الذين يتبعهم الغاوون” ومقالاته القصيرة التي جمعها ثم طبعها بعنوان “ثورة في السنة النبوية”، يعكسان ميلاً للقصيبي في السنوات الخمس عشرة الأخيرة نحو الدراسات الشرعية وخوض مجالها، وقد سبقهما قبل ذلك في كتابِهِ المثير للجدل “حتى لا تكون فتنة”. يقول الدخيل: ” كتب القصيبي دراسته عن الشعراء على طريقة المفسرين الفقهاء، وقد تجلّت في الكتاب الروحُ الفقهيةُ، وثقته وشجاعته في مناقشة المفسرين حول إقرار الشاعر باقتراف ما يوجب الحدَّ الشرعي في شعره، حيث انتهى القصيبي إلى “إن الشعر لا يصلح إقراراً، لا لأن الشاعر صادقٌ أو كاذبٌ، بل لأن طبيعةَ الشعر وأسلوبه وخياله وصوره تجعل روحه ولغته بعيدة كل البعد عن روح الإقرار الشرعي ولغته.
اختار الدخيل في (قال لي القصيبي) أن تكون المقدمة مقصورة على الجوانب الإنسانية عند غازي القصيبي، فعودة غازي للوزارة، وتوليه وزارة العمل والمصاعب التي واجهها، والمشاكل التي أحاطت به، والمعاناة التي قاسها، سيجدها القاريء في الحوارات التي قدم لها المؤلف ملخصاً يوضح أهم محاورها.
الكتاب من منشورات دار مدارك – مارس 2012. في 235 صفحة، شملت المقدمة بجزأيها 111 صفحة، بينما غطت الحوارات 118 صفحة من الكتاب، وسيكون متوفراً في جناح مدارك، في معرض الرياض للكتاب.