سأتجاوز الجدل التقليدي، هل سحبت الرواية البساط من الشعر؟ أم سحب الشعر البساط من الرواية؟ وذلك لسبب واحد وبسيط وهو أنني لا أؤمن بوجود بساط واحد. بإمكان كل فن أن ينتج بساطاً خاصاً به. لذة الرواية لا تقاوم، كما أن عظمة الشعر وخلود معانيه وتاريخه العريق لا يمكنه أن يهزم بسهولة. لنمنح كل فنٍ بساطه.
السحر في فنّ الرواية –في المجتمعات المغلقة بالذات- أنها وسيلة لتمرير حمولة كبيرة من الأفكار والأحداث عبر الشخصيات التي يبتكرها الروائي من دون أن يدخل في مماحكات كبيرة مع المجتمع. الرواية حيلة أسلوبية وفنية توافقت مع احتياجات دول العالم الثالث. لا أحد يستطيع كتابة كل سيرته الذاتية علناً إلا ما ندر. لهذا اسمحوا لي أن أعتبر الروايات التي تتناسل الآن بين فترة وأخرى هي بمعنىً ما: عبارة عن “تأريخ” لمرحلة.
توظيف الرواية السعودية لتدوين التاريخ الذاتي والشخصي طغى على كل توظيف آخر، لا نكاد نقرأ رواية بوليسية أو خيالية أو فلسفية، جلّ الروايات تدوّن وقائع ذاتية أو اجتماعية أو سياسية أو تاريخية.
الرواية السعودية دخلت غرفة التاريخ من الشباك. لهذا ينجو الداخل من الشباك بفعلته بعد أن ينفض ثيابه، على عكس كاتب التاريخ بمنهج التاريخ العلمي والمعرفي.
جاءتني هذه الأفكار وأنا أقفل رواية “ترمي بشرر” لعبده خال، الذي أرى أنه وشم إيجابي تاريخي للرواية السعودية. فهو استطاع أن يدرس “القصر” بأسلوب روائي سلس. التاريخ العربي تأثر بالقصر، التراث العربي نفسه انعجن بالقصور. بعض المواضع في الرواية بلغت ذروتها. شحن عبده خال روايته بالآلام، منذ أول جملة في الرواية: “الانزلاق للإجرام”، إلى آخر جملة: “آه كم هي المسافة بعيدة بين الخيال والواقع”.
إنها رواية رثائية تضمنت نعياً لمرارات يتجرعها الخادم المنزلق إلى الإجرام، كما تتضمن توصيفاً جليلاً حول الانهيار الأخلاقي، و”القوادة” ورعب اللذة. بعض نصوص الرواية تنزف شعراً. خذ مثلاً نعي “عمر القرش” للبحر: “كنا أصغر مما يجب لفهم كل ما يحدث، الشيء الذي وغر صدورنا تلك الأسوار التي حجبت البحر ولم تعد تمكننا من الغوص داخل المياه الممتدة. أسوار عالية نبتت في غفلتنا، وعندما جئنا للبحر لم نعد نملك شيئا من هذا المدى الواسع، فقد غدا المكان قصوراً تزاحم بعضها بعضاً لالتهام مياه البحر”.
إنها الرواية التي تتجاوز خطوط الوصف الحمراء. أن نقرأ واقعنا بعيوننا وبحواسّنا الإنسانية. وهذه هي إيجابية الرواية التي امتلكت بساطاً عالمياً خارقاً. لا تكاد تمرّ في مكان أو مقهى أو محطة انتظار، إلا وترى أمامك رواية شامخة بين يدي قارئ نهم. شكراً للروايات التي حلّت عُقَداً من ألسنتنا.