وَمَا زِلْنَا نَعْرِضُ أَعْجَازَ أَبْيَاتِ شِعْرٍ لِأَبِي الطَّيِّبِ الْمُتَنَبِّي، سَارَتْ أَمْثَالاً، فَقَدْ أَقَرَّ الْمُحِبُّ وَالْمُبْغِضُ بِأَنَّ مِنْ مَزَايَا شِعْرِ أَبِي الطَّيِّبِ، إِرْسَالُ الْمَثَلِ فِي أَنْصَافِ الْأَبْيَاتِ…
(134) وَأَغْيَظُ مَنْ عَادَاكَ مَنْ لَا تُشَاكِلُ
هَذَا عَجُزُ بَيْتٍ لِأَبِي الطَّيِّبِ، سَاقَهُ الصَّاحِبُ بْنُ عَبَّادٍ فِي (الْأَمْثَالُ السَّائِرَةُ مِنْ شِعْرِ الْمُتَنَبِّي).
وَأَوْرَدَهُ الثَّعَالِبِيُّ فِي (يَتِيمَةُ الدَّهْرِ)، مُعْجَباً بِبَرَاعَةِ الْمُتَنَبِّي فِي صِيَاغَةِ مَثَلٍ مُسْتَقِلٍّ فِي شَطْرٍ وَاحِدٍ.
الْمَعْنَى عَمِيقٌ: الْعَدُوُّ يَغْتَاظُ أَشَدَّ الْغَيْظِ مِمَّنْ لَا يُشْبِهُهُ، لِأَنَّ الْمُشَاكَلَةَ تُخَفِّفُ الْوَطْأَةَ، بَيْنَمَا مُخَالَفَةُ الطَّبْعِ تُؤَجِّجُ الضَّغِينَةَ.
وَلَا يَخْلُو غَيْظُ الْعَدُوِّ مِنْ حَسَدٍ عَلَى مَنْزِلَةِ خَصْمِهِ، وَأَلَمٍ عَلَى عَجْزِهِ عَنْ بُلُوغِ هَذِهِ الْمَنْزِلَةِ، أَوْ مُقَارَبَتِهَا!
أَيُّ غَيْظٍ أَشَدُّ مِنْ أَنْ يَرَى الْخَصْمُ خَصْمَهُ يُخَالِفُهُ مَعْدِناً وَجَوْهَراً؟
الْمُتَنَبِّي يَخْتَزِلُ قَانُوناً نَفْسِيّاً بَدِيعاً.
صِيغَةُ الْفِعْلِ «تُشَاكِلُ» تُوحِي بِالتَّشَابُهِ الشَّكْلِيِّ الظَّاهِرِيِّ، وَلَكِنَّهَا عِنْدَ الْمُتَنَبِّي تَنْبِضُ بِمَعْنَى الْمُشَاكَلَةِ الْجَوْهَرِيَّةِ، إِنَّهَا تَتَجَاوَزُ لِقَاءَ الْمَظْهَرِ لِتَبْلُغَ لِقَاءَ الطِّبَاعِ.
وَإِيقَاعُ الشَّطْرِ، بِتَتَابُعِ حُرُوفِهِ الْقَوِيَّةِ، يُعَزِّزُ هَذَا الْغَيْظَ، كَأَنَّهُ يَنْطِقُ بِحُرْقَةِ الْعَدُوِّ، فَمَا يُغِيظُ عَدُوَّكَ هُوَ أَنَّكَ لَا تُشَاكِلُهُ!
أَسَّسَ النَّبِيُّ ﷺ لِلْفِكْرَةِ ذَاتِهَا، بِقَوْلِهِ: «الْأَرْوَاحُ جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ، فَمَا تَعَارَفَ مِنْهَا ائْتَلَفَ، وَمَا تَنَاكَرَ مِنْهَا اخْتَلَفَ».
يُفَسِّرُ الْخَطَّابِيُّ الْحَدِيثَ بِأَنَّ الْمُشَاكَلَةَ تَقَعُ بِحَسَبِ الطِّبَاعِ: الْخَيِّرُ يَحِنُّ إِلَى شَكْلِهِ، وَالشِّرِّيرُ إِلَى نَظِيرِهِ، فَتَعَارُفُ الْأَرْوَاحِ خَاضِعٌ لِمَيْلِ الطَّبَائِعِ.
وَمِنْ هُنَا يَتَضِحُ أَنَّ النُّفُوسَ الْعَالِيَةَ تَأْنَسُ بِنَظِيرَاتِهَا، وَالْوَضِيعَةُ تَطْمَئِنُّ لِمَنْ شَاكَلَهَا.
يُصَدِّقُ ذَلِكَ حَدِيثُ الرَّسُولِ ﷺ الْقَائِلُ: «الْمَرْءُ عَلَى دِينِ خَلِيلِهِ، فَلْيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ مَنْ يُخَالِلُ».
الْمُتَنَبِّي يَصُوغُ هَذِهِ الْحِكْمَةَ شِعْراً، يَنْطَبِعُ فِي الْوِجْدَانِ، كَمَا فِي شَطْرِ بَيْتِنَا.
(135) وَشِبْهُ الشَّيْءِ مُنْجَذِبٌ إِلَيْهِ
يُوَاصِلُ الْمُتَنَبِّي بِنَاءَ فِكْرَتِهِ فِي بَيْتٍ آخَرَ، فَيُقَرِّرُ قَانُوناً فِطْرِيّاً: الشَّبِيهُ يَنْجَذِبُ إِلَى شَبِيهِهِ بِقُوَّةٍ غَرِيزِيَّةٍ.
لَفْظَةُ «مُنْجَذِبٌ» تَحْمِلُ إِيحَاءَ الْحَرَكَةِ الطَّبِيعِيَّةِ، كَأَنَّ الشَّبِيهَ يُسَاقُ إِلَى شَكْلِهِ بِمَغْنَاطِيسٍ كَوْنِيٍّ.
إِيقَاعُهَا النَّاعِمُ يُوحِي بِالسَّلَاسَةِ الْغَرِيزِيَّةِ لِهَذَا الِانْجِذَابِ.
لَمْ يَبْتَدِعِ الْمُتَنَبِّي الْفِكْرَةَ، وَإِنْ أَبْدَعَ التَّعْبِيرَ عَنْهَا، فَفِي الْأَثَرِ الَّذِي اتَّفَقَ عَلَيْهِ الْبَشَرُ، قَوْلُهُمْ: «النَّاسُ بِزَمَانِهِمْ أَشْبَهُ مِنْهُمْ بِآبَائِهِمْ».
وَلَكَ أَنْ تَعْجَبَ، فَانْجِذَابُ الْأَشْبَاهِ يَصِلُ إِلَى شَبَهِ النَّاسِ بِزَمَنِهِمْ، شَبَهاً يَفُوقُ شَبَهَهُمْ بِآبَائِهِمْ!
وَعَلَيْهِ فَإِنَّ انْجِذَابَ النَّاسِ لِزَمَنِهِمْ وَأَهْلِهِ وَمُسْتَجَدَّاتِهِ شَدِيدٌ أَكِيدٌ.
أَكَّدَ إِبْرَاهِيمُ النِّظَامُ: أَنَّ «الشَّيْءَ يَصِيرُ إِلَى شَكْلِهِ».
وَهُوَ مَا تَكَرَّرَ فِي أَمْثَالِ الْعَرَبِ.
نُسِبَ إِلَى عَدِيِّ بْنِ زَيْدٍ، الشَّاعِرِ الْجَاهِلِيِّ، قَوْلُهُ:
عَنِ الْمَرْءِ لَا تَسْأَلْ وَسَلْ عَنْ قَرِينِهِ ** فَكُلُّ قَرِينٍ بِالْمُقَارَنِ يَقْتَدِي
رَجَّحَ الْمَرْزُبَانِيُّ أَنَّ الْبَيْتَ لِعَدِيٍّ.
وَأَثْنَى عَلَيْهِ الْأَصْمَعِيُّ، قَائِلاً: «لَمْ أَرَ بَيْتًا أَشْبَهَ بِالسُّنَّةِ مِنْهُ»، لِتَقَارُبِهِ مَعَ الْحِكْمَةِ النَّبَوِيَّةِ فِي أَهَمِّيَّةِ اخْتِيَارِ الصُّحْبَةِ.
وَإِنِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ حَوْلَ بَيْتٍ مُشَابِهٍ لِطَرَفَةَ بْنِ الْعَبْدِ، فَالْفِكْرَةُ رَاسِخَةٌ.
قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «مَا شَيْءٌ أَدَلُّ عَلَى شَيْءٍ، وَلَا الدُّخَانُ عَلَى النَّارِ مِنَ الصَّاحِبِ عَلَى الصَّاحِبِ».
وَلَخَّصَ ذَلِكَ الْحُكَمَاءُ، فَقَالَ أَرِسْطُو: «الْأَشْكَالُ لَاحِقَةٌ بِأَشْكَالِهَا، كَمَا الْأَضْدَادُ مُبَايِنَةٌ لِأَضْدَادِهَا».
وَجَعَلَ الْإِمَامُ الْغَزَّالِيُّ مِنْ أَسْبَابِ الْحُبِّ: «الْمُنَاسَبَةَ وَالْمُشَاكَلَةَ، لِأَنَّ شَبَهَ الشَّيْءِ مُنْجَذِبٌ إِلَيْهِ، وَالشَّكْلَ إِلَى الشَّكْلِ أَمْيَلُ. وَلِذَلِكَ تَرَى الصَّبِيَّ يَأْلَفُ الصَّبِيَّ، وَالْكَبِيرَ يَأْلَفُ الْكَبِيرَ، وَيَأْلَفُ الطَّيْرُ نَوْعَهُ، وَيَنْفِرُ مِنْ غَيْرِ نَوْعِهِ. وَأُنْسُ الْعَالِمِ بِالْعَالِمِ أَكْثَرُ مِنْ أُنْسِهِ بِالْمُحْتَرِفِ، وَأُنْسُ النَّجَّارِ بِالنَّجَّارِ أَكْثَرُ مِنْ أُنْسِهِ بِالْفَلَّاحِ. وَهَذَا أَمْرٌ تَشْهَدُ بِهِ التَّجْرِبَةُ، وَتَشْهَدُ لَهُ الْأَخْبَارُ وَالْآثَارُ».
حُكِيَ أَنَّ حَكِيماً رَأَى غُرَاباً مَعَ حَمَامَةٍ، فَتَعَجَّبَ مِنْ تَآلُفِهِمَا. ثُمَّ اكْتَشَفَ أَنَّ كَسْرَ جَنَاحَيْهِمَا جَمَعَهُمَا، فَالْعِلَّةُ تَجْمَعُ الْأَضْدَادَ!
إِنَّ مَا جَاءَ فِي الْمَوْضُوعِ مِنَ الْأَمْثَالِ الشَّعْبِيَّةِ، مِثْلَ: «الطُّيُورُ عَلَى أَشْكَالِهَا تَقَعُ»، يُعَدُّ تَرْجَمَةً لِمَا صَاغَهُ الْمُتَنَبِّي بِبَلَاغَتِهِ، فِي الشَّطْرَيْنِ.
وَفِي كِتَابِ (الْجِدُّ الْحَثِيثُ فِي بَيَانِ مَا لَيْسَ بِحَدِيثٍ)، لِأَحْمَدَ الْغَزِّي الْعَامِرِيِّ، قَالَ: «شَبِيهُ أَوْ شَبَهُ الشَّيْءِ مُنْجَذِبٌ إِلَيْهِ»، هُوَ مِنْ كَلَامِ الْغَزَّالِيِّ فِي الْإِحْيَاءِ.
وَكَانَ شَمْسُ الدِّينِ السَّخَاوِيُّ، أَوْرَدَ الْقَوْلَ فِي كِتَابِهِ: (الْمَقَاصِدُ الْحَسَنَةُ فِيمَا اشْتَهَرَ مِنَ الْأَحَادِيثِ عَلَى الْأَلْسِنَةِ)، وَلَمْ يُعَلِّقْ عَلَيْهِ، وَاكْتَفَى بِالْقَوْلِ: هُوَ مَعْنَى: الْأَرْوَاحُ جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ.
أَمَّا إِسْمَاعِيلُ الْعَجْلُونِيُّ، فِي كِتَابِهِ: (كَشْفُ الْخَفَاءِ وَمُزِيلُ الْإِلْبَاسِ عَمَّا اشْتَهَرَ مِنَ الْأَحَادِيثِ عَلَى أَلْسِنَةِ النَّاسِ)، فَقَالَ: شَبِيهُ أَوْ شَبَهُ الشَّيْءِ مُنْجَذِبٌ إِلَيْهِ: لَيْسَ بِحَدِيثٍ.
وَمَا سَبَقَ دَلَالَةٌ عَلَى أَهَمِّيَّةِ الْمَوْضُوعِ، وَقِيمَتِهِ، وَتَمَكُّنِ انْجِذَابِ الشَّبِيهِ إِلَى مَنْ شَاكَلَهُ، وَهُوَ مَا يُسَمَّى الْمُشَاكَلَةُ.
هَذِهِ الْمُشَاكَلَةُ لَيْسَتْ خَصِيصَةً تُرَاثِيَّةً، فَنَحْنُ نَرَى الْيَوْمَ الْمُشَاكَلَةَ فِي الطَّبَاعِ فِي كُلِّ مَكَانٍ: أَصْحَابُ الْهِمَمِ الْعَالِيَةِ يَتَعَارَفُونَ سَرِيعاً، يَتَبَادَلُونَ أَحَادِيثَ الطَّمُوحِ كَأَبْطَالٍ يَتَشَارَكُونَ حُلْماً.
فِي بِيئَاتِ الْعَمَلِ، يَتَآلَفُ الطَّمُوحُونَ لِتَحْقِيقِ أَهْدَافٍ مُشْتَرَكَةٍ، بَيْنَمَا يَتَقَارَبُ مَنْ يَمِيلُونَ إِلَى السَّلْبِيَّةِ.
وَفِي وَسَائِلِ التَّوَاصُلِ الِاجْتِمَاعِيِّ، تَجِدُ الْمُهْتَمِّينَ بِمَجَالٍ يَتَفَاعَلُونَ بِحَمَاسٍ، بَيْنَمَا يَنْفِرُ الْمُتَضَادُّونَ حَتَّى فِي التَّعْلِيقَاتِ.
الْمُتَنَبِّي، بِبَصِيرَتِهِ، تَنَبَّأَ بِطَبَاعِ الْبَشَرِ فِي عَصْرِنَا…
هَلْ قُلْتُ: فِي عَصْرِنَا؟!
الْحَقُّ أَنَّ الْمُتَنَبِّي تَنَبَّأَ بِطِبَاعِ الْبَشَرِ، وَطِبَاعُ الْبَشَرِ هِيَ طِبَاعُ الْبَشَرِ فِي الْعُصُورِ كُلِّهَا، وَعَلَى مَرِّ الدُّهُورِ.
فِي شَطْرَيْنِ مِنْ بَيْتَيْنِ، جَمَعَ الْمُتَنَبِّي حِكْمَةَ الْأَرْوَاحِ الْمُتَشَاكِلَةِ، وَأَلْبَسَهَا حُلَّةً شِعْرِيَّةً تَجْمَعُ بَيْنَ الْإِيجَازِ وَالْبَلَاغَةِ.
كُلُّ شَطْرٍ مُسْتَقِلٌّ، لَكِنَّهُ يُكَمِّلُ الْآخَرَ، فَكَأَنَّ شِعْرَهُ نَسِيجُ حِكْمَةٍ تَتَكَامَلُ خُيُوطُهُ.
هَكَذَا هُوَ أَبُو الطَّيِّبِ: يَقُولُ الشِّعْرَ، فَيَصْبَحُ مَثَلاً يَتَرَدَّدُ عَلَى الْأَلْسِنَةِ، مُتَمَكِّناً مِنَ الضَّمَائِرِ، خَالِداً فِيهَا، يُذَكِّرُنَا أَنَّ الْمُشَاكَلَةَ سُنَّةٌ كَوْنِيَّةٌ تَحْكُمُ النُّفُوسَ وَالْعُصُورَ.