“إيران” هي حديث العالم وشغله الشاغل، والنفوذ الذي رسمتْه لنفسها في المنطقة جعل من عبارة “النفوذ الإيراني” عبارةً سائغة مستهلكة تتداول في الإعلام والفضائيات والصحف. كنتُ أشرتُ إلى ضرورة التفريق بين إيران “التاريخ” الذي أمدّ البشرية بعطاءات ريادية في العلوم والطب والفلسفات والإنجازات المعمارية والفنون والخطوط، وبين إيران التي تعتمد على أيديولوجيا عقائدية بحتة منبعها السيطرة والهيمنة والقوة الخشنة، القوة التي تعتمد على توتير مناطق النزاع بين المتخاصمين سواء كان هذا في العراق كما هو واضح، أو في غيره من بلدان العالم الإسلامي والعربي. لكن هل يمكن تصوّر قوة من دون “خشونة”؟! الكاتب اللبناني “علي حرب”، في كتابه الجديد “المصالح والمصائر-صناعة الحياة المشتركة”، عقد مقارنة دقيقة للتفريق بين النفوذ الإيراني الخشن، وبين النفوذ التركي الناعم. يقول: “في الماضي أبدعت إيران في غير مجال، في الشعر والعمارة، كما في صناعة الفلسفة، أو صنع السجادة، أما اليوم فالبارز في المشهد ليس الاختراع والإبداع بل …الحشد والخطب النارية”. وهو على العكس من أردوغان الذي يصفه “حرب” بأنه: “الآتي من حزبٍ إسلامي والذي يعرّف العلمانية على أنها تعدد الأنماط، والذي يمارس هويته بصورة منفتحة مركبة، بجذرها الديني ومرتكزها القومي وأفقها الحداثي، ومداها الأوروبي”. كلتا التجربتين، الإيرانية والتركية، تنتميان إلى التجارب الإسلامية الحركية وإن اختلفت المذاهب والطوائف، غير أن الجانب التركي استطاع -حتى الآن- أن يتواكب مع متطلبات “حسن السلوك” ليتمكّن من الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، وضغط التركيبة السياسية العلمانية في تركيا، ولعل من أبرز المفارقات أن يتعهّد حزب “العدالة والتنمية” بجذوره الإسلامية بـ”الحفاظ على العلمانية”. هذا هو الفرق الجوهري بين دولة تركيا التي تخطط لمستقبل يشملها أوروبياً، ويجعلها قوة نافعة في المنطقة تبني ولا تهدم، تنشر ثقافتها بالمسلسلات والسياحة والقنوات الرسمية التركية الناطقة بالعربية والتي بدأت منذ شهور. بالعودة إلى “علي حرب” وتفريقه بين النموذجين نجده يصف الفرق بوضوح حين يقول: “تركيا تهتم بتحديث اقتصادها وتنمية مواردها، فيما إيران تريد تصدير العقيدة والثورة، وتركيا تمارس الانفتاح على العالم، فيما إيران تمارس التهويل الأيديولوجي بالكلام على الغزو الثقافي الغربي، على ما يفعل عرب وأفغان وباكستانيون وغيرهم، وتركيا تلعب دور الوسيط في حل النزاعات العربية والإقليمية، فيما إيران تريد إعادة ترتيب الأوضاع السياسية والمجتمعية في المنطقة، وتركيا تشتغل بالقوة الناعمة، فيما إيران تهتم بالتخصيب النووي وتوظيف الثقافة التي تحوّل الناس إلى ضحايا، من هنا نجاح النموذج التركي، وإخفاق النموذج الإيراني”. إذن السرّ في القوة الناعمة، ليس مشكلة الدول مع إيران في النفوذ، نحن نعلم أن دولاً عربية وخليجية كثيرة لديها نفوذها الناعم في دعم التعليم والصحة والسياحة والإعلام. من حق كل دولة أن تمارس نفوذها المدني الناعم الذي لا يخدش ولا يستفزّ، لهذا فحينما نرقب الحالة التركية نجدها حاضرة عند الصغار والكبار بفضل المدّ التركي المنظّم عبر الإعلام والفضائيات، ومن خلال المواقف السياسية المدافعة عن الحقوق العربية. النموذج التركي يحرسك ليكسب ودك كما فعل في مواقفه تجاه فلسطين، بينما المشاريع الأخرى، لا تكسب سوى ود “الأيديولوجيا”، ولا شيء غير ذلك.
جميع الحقوق محفوظة 2019