(39) مَا كُلُّ مَا يَتَمَنَّى المَرْءُ يُدْرِكُهُ * تَجْرِي الرِّيَاحُ بِمَا لا تَشْتَهِي السُّفُنُ
بيتُ المُتَنبِّي هذا، إنْ لَمْ يَكُنْ أَشْهَرَ بَيْتِ شِعْرٍ عَرَبِيٍّ، فَهْوَ مِنْ بَيْنِ أَشْهَرِ الأبْياتِ. وهو مِنَ أبْياتِ المتنبّي التي صارتْ أَمْثالاً سائِرةً بين الناسِ، بفَضْلِ مَا أَرْسَلَ فيه شاعِرُه من حِكْمةٍ بَليغةٍ.
إنَّ مِنْ حَقِّ النَّاسِ أنْ تَكونَ لها أَمَانِيهَا، لكنَّ سُنَنَ الحياةِ قَضَتْ أَلَّا تَتَحقَّقَ الأمانِي كُلُّها، كما قال الشَّاعرُ في صَدْرِ البَيتِ.
قولُه: (يُدْرِكُه): الهاءُ عائدةٌ على (ما يتمنَّى المرءُ)، ويُدْرِكُ، أيْ: يُحَقِّقُ ما يَتَمَنَّى.
وشَرَحَ المُتَنبِّي في عَجُزِ البَيْتِ ما قَرَّرَ في صَدْرِه، وتَفْصِيلُ ذلكَ أنَّ مِنْ سُنَنِ الحَياةِ، ورُبَّما مِنْ خِلَالِها، عَدَمَ إِدْرَاكِ المَرْءِ كلَّ ما يَتِمَنَّى، وأنَّ الرِّياحَ لا تَجْرِي (أيْ: لا تَهُبُّ) وَفْقَ مَا تَشْتَهِي السُّفُنُ (أيْ: بحَسَبِ ما تَرْغَبُ فيه السُّفُنُ)، والسُّفُنُ هنا تُحِيلُ على القادَةِ الذينَ يُسَيِّرُونَهَا.
وكَأَنَّ المتنبِّيَ يُقولُ للنَّاسِ، إنَّ عَدَمَ إِدْرَاكِ مُعْظَمِ أِمِانِيكُمْ إنَّما هُوَ الأَصْلُ، فلا يُصِيبَنَّكُمُ الإِحْباطُ جَرَّاءَ ذلِكَ.
(40) المَجْدُ عُوفِيَ إِذْ عُوفِيتَ والكَرَمُ * وزَالَ عَنْكَ إِلَى أَعْدَائِكَ الأَلَمُ
هذا البيتُ مَطْلَعُ قَصيدَةٍ، يُهَنِّئُ المُتَنَبِّي فيها سَيفَ الدولةِ الحَمْدَانِيَّ بِشِفَائِهِ مِنْ عارِضٍ صِحِّيٍّ، والبيتُ مِنْ أَمْثِلَةِ الاِسْتِدْلِالِ البَارِعِ، وحُسْنِ المَطَالِعِ، فِي عِلْمِ البَدِيعِ. وضَابِطُ حُسْنِ الابْتِدَاءِ: أَنْ يَسْتَهِلَّ شِعْرَهُ بِأَلْفَاظٍ تَقْبَلُهَا الأَسْمَاعُ، وَتَنْزِلُ بَرْداً وسَلَاماً عَلَى الآذَانِ.
يَتَلَقَّى السَّامِعُ بَيتَ المُتَنَبِّي تَلَقِّيَ الرِّضَى والإِعْجَابِ، بِفِكْرَةِ رَبْطِ تَعَافِي السَّجَايَا الحَمِيدَةِ بِشِفَاءِ المَمْدُوحِ، فَيَسْتَعِيدُ المَجْدُ عَافيَتَهُ ويَبْرَأُ الكَرَمُ مِنْ عِلَّتِهِ، وكَأنَّ المَجْدَ والسَّخَاءَ مُغْتَبِطانِ مُبْتَهِجَانِ بِسَلَامَةِ المَمْدُوحِ، تِلْكَ التِي كانَتْ تِرْيَاقًا لَهُمَا مِن ِالأَسْقَامِ.
المَجْدُ: هو لَفْظٌ جَامِعٌ لِأَفْعَالِ الشَّرَفِ، والمُرُوءَةِ، وحَمِيدِ السَّجَايَا، وَكَرِيمِ الخِصَالِ، التِي يَتَحَقَّقُ بِهَا التَّعْظِيمُ وَالثَّنَاءُ.
عُوفِيَ: مِنَ الْعَافِيَةِ، وَهْيَ أَنْ يُعافِيَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ سُقْمٍ أَوْ بَلِيَّةٍ، وَالعَافِيِةُ هِيَ الصِّحَّةُ وضِدُّ المَرَضِ. يُقَالُ: عَافَاهُ اللَّهُ وأَعْفَاهُ أَيْ: وَهَبَ لَهُ الْعَافِيَةَ مِنَ العِلَلِ والبَلايَا. (لسان العرب).
زَالَ: فِعْلٌ مَاضٍ، مِنَ الزَّوَالِ، ومِنْهُ زَوالُ الشَّمْسِ، وَهْوَ غِيَابُهَا، وَكَذَلِكَ زَوَالُ المَالِ، بِفِقْدَانِهِ إِمَّا بِخَسَارَتِهِ أَو بِتَبْذِيْرِهِ، ونَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يَزُولُ عَنْ حَالِهِ، بِتِحَوُّلِهِ إلَى حَالٍ أُخْرَى.
قال ابنُ جِنِّي: «زال فِي هَذَا المَوضِعِ خَبَرٌ لَا دُعَاءٌ، ولَيسَ بِمَنزِلَةِ قَولِكَ: غَفَرَ اللهُ لَكَ، أَلَا تَرَاهُ إِنَّمَا خَاطَبَهُ بِهَذَا بَعدَ زَوالِ مَا كَانَ يَجِدُهُ؟ وتَرَى أَيضاً أَنَّ صَدْرَ البَيتِ خَبَرٌ، وكَذَلِكَ عَجُزُهُ».
وَوَفْقاً لِقَوْلِ اِبْنِ جِنِّي، فَإِنَّ الشَّاعِرَ أَخْبَرَنَا بِمُعَافَاةِ المَجْدِ والكَرَمِ إِثْرَ شِفَاءِ المَمْدُوحِ، ثُمَّ أَخْبَرَنَا فِي عَجُزِ البَيتِ بِمَا يُتَمِّمُ الأخْبَارَ السَّعِيدَةَ، فَالْأَلَمُ الذي كانَ ألَمَّ بِالمَمْدُوحِ، قدْ زال عنْهُ، فشُفِيَ مِنْهُ وعُوفِيَ، وكانَ زَوَالُ الأَلَمِ بِتَحَوُّلِهِ إِلَى أَعْدَاءِ المَمْدُوحِ.
وَفِي البَيتِ أَخْبَرَنَا المُتَنَبِّي، بِشِفَاءِ المَمْدُوحِ، وَتَسَبَّبَ هذا الشِّفَاءُ في زَوَالِ السُّقْمِ عَنِ المَجْدِ وَحُصُولِهِ على العَافِيَةِ، وكَذَا الكَرَمُ الذي تَحَقَّقَتْ عَافِيَتُهُ مِنَ الاِعْتِلَالِ إِثْرَ تَعَافِي المَمْدُوحِ، وزَوَالِ ألَمِه، وتَحَوُّلِ الأَلَمِ إلى أَعْدَائِهِ. وَهْيَ خَمْسَةُ أخْبَارٍ مُخْتَلِفَةٌ تَضَمَّنَهَا بيتٌ واحدٌ.
(41) إِذَااعْتَادَالفَتَىخَوْضَالمَنَايَا * فَأَهْوَنُمَايَمُرُّبِهِالوُحُولُاِعْتَادَ: اِتَّخَذَعَادَةًوَسَجِيَّةً.
الفتى: الشَّابُأَوَّلَشَبَابِهِبِيْنَالمُرَاهَقَةِوالرُّجُولَةِ. (مجمعاللغةالعربيةبالقاهرة). واخْتَارَ «الفَتَى» مِثالاًلَاتَحْدِيداً،لِأَنَّهُهُوَمَنْيَتَصَدَّىعَادَةًلِهَذِهِالأُمُورِ.
خَوْضَ: مَصْدَرُخاضَفيالمَاِء: مَشَىفِيهِ،وخَاضَالمُبَارَاةَ: أيْ: لَعِبَهَا،وخاضَالانتخاباتِ: شارَكَفيهامُتَرَشِّحاً.
المَنَايَا: جَمْعُمَنِيَّةٍ،والمَنِيَّةُهيَالمَوْتُ.
(خَوْضَالمَنَايَا): تِعْنِيمُوَاجَهَةَالصِّعابِ،ومُكَافَحَةَالمَتَاعِبِ. وعَبَّرَبالمَنَايَاعَنِالصِّعَابِوالمَتَاعِبِ،لِبَيِانِخُطُورَتِهَاالتيتُشْبِهُخُطُورَةَالمَوْتِ.
أَهْوَنُ: أَفْعَلُالتَفْضِيلِبمعنىهَيِّنٌ،أيْ: أَيْسَرُوَأَسْهَلُمَايُوَاجَهُ.
الوُحُولُ: جَمْعُوَحْلٍ،وهوالطَّينُالذيخَالَطَهُمَاءٌ،فصارَمُسْتَنْقَعَطِينٍرَطْبٍ.
المعنى: إِذَاوَاجَهَالمَرْءُالصِّعَابَفَكَافَحَهَاواجْتَازَها،صَغُرَتْمَادُونَهَامِنَالصِّعَابِوَلَوْكانَتْخَطِيرةً،وَهَانَعَلَيْهِخَوْضُهَا،فالمَصَاعِبُيُصَغِّرُبَعْضُهابَعْضاًكمايُقالُ.
وقوله (فَأَهْوَنُمَايَمُرُّبهالوُحُولُ): فِيهِإِخْبَارٌبأنَّهمَرَّبالوُحُولِوَاجْتَازَمَشَقَّتَها،وهذاأهَّلَهلِتَجَاوُزِالهَيِّنِالسَّهْلِ،وَهْوَمِااعْتَادَعليهمِنْمُواجَهَةِالصِّعَابِوالاِنْتِصَارِعلَيْهَا.