وَمَا زِلنَا نَعرِضُ أَعجَازَ أَبيَات شِعْرٍ لِأَبِي الطَّيِّبِ المُتَنَبِّي، سَارَتْ أَمْثَالًا، فقد أَقَرَّ المُحِبُّ والمُبغِضُ بِأَنَّ مِنْ مَزَايَا شِعْرِ أَبِي الطَّيِّبِ، إِرْسَالُ الْمَثَلِ فِي أَنْصَافِ الْأَبْيَاتِ…
(129) أَشَدُّ مِنَ السُّقمِ الَّذِي أَذْهَبَ السُّقْمَا
السُّقْمُ: السَّقَامُ وَالسُّقْمُ وَالسَّقَمُ، هِيَ الْمَرَضُ. لَا يُوجَدُ أَشَدُّ مِنَ الْمَرَضِ وَيُذْهِبُ الْمَرَضَ، إِلَّا الْمَوْتُ. وَالْمَوْتُ، أَشَدُّ مِنَ السُّقْمِ؛ لِأَنَّ السُّقْمَ يُزِيلُ الصِّحَّةَ، وَالْمَوْتَ يُزِيلُ الْحَيَاةَ وَيُبْطِلُهَا. وَشَطْرُ بَيْتِ الْمُتَنَبِّي هَذَا، هُوَ جُزْءٌ مِنْ قَوْلِهِ فِي بَيْتٍ آخَرَ، يَشْرَحُ شَطْرَهُ: وَشَكِيَّتِي فَقْدُ السَّقَامِ لِأَنَّهُ * قَدْ كَانَ لَمَّا كَانَ لِي أَعْضَاءُ يَقُولُ: أَصْبَحْتُ الْآنَ أَفْتَقِدُ الْمَرَضَ، وَشَكْوَايَ هِيَ فَقْدِي الْمَرَضَ، إِذْ كَانَ الْمَرَضُ بِي يَوْمَ كَانَ لَدَيَّ أَعْضَاءٌ أَشْعُرُ بِهَا، أَمَّا بَعْدَ أَنْ فَقَدْتُ الإِحْسَاسَ بِأَعْضَائِي، فَإِنَّ ذَلِكَ أَفْقَدَنِي الْمَرَضَ. يَقْصِدُ أَنَّ مَنْ يَتَمَنَّى الْمَرَضَ، إِنَّمَا يَفْعَلُ ذَلِكَ لِأَنَّ الْمَرَضَ يَعْنِي إِحْسَاسَهُ بِالْأَعْضَاءِ، وَهَذَا أَخَفُّ مِنْ فَقْدِ الْمَرَضِ بِسَبَبِ عَدَمِ الإِحْسَاسِ بِالْأَعْضَاءِ وَانْعِدَامِ الشُّعُورِ بِهَا، الَّذِي هُوَ أَشَدُّ مِنَ السَّقَامِ! وَمِثْلُ قَوْلِهِ: وَكُنْتُ قُبَيْلَ الْمَوْتِ أَسْتَعْظِمُ النَّوَى * فَقَدْ صَارَتِ الصُّغْرَى الَّتِي كَانَتِ الْعُظْمَى وَقَوْلُهُ:
وَإِنِّي لِمَنْ قَوْمٍ كَأَنَّ نُفُوسَنَا * بِهَا أَنَفٌ أَنْ تَسْكُنَ اللَّحْمَ وَالْعَظْمَا
وَنَحْوُهُ قَوْلُ أَبِي تَمَّامٍ: أَقُولُ وَقَدْ قَالُوا اسْتَرَاحَتْ بِمَوْتِهَا * مِنَ الْكَرْبِ رُوحُ الْمَوْتِ شَرٌّ مِنَ الْكَرْبِ
(130) فَإِنَّ الرِّفْقَ بِالجَانِي عِتَابُ
هَذَا شَطْرٌ مِنْ بَيْتٍ لِأَبِي الطَّيِّبِ، ذَكَرَهُ الصَّاحِبُ بْنُ عَبَّادٍ فِي مُنْتَقَيَاتِهِ الَّتِي اخْتَارَهَا مِنْ شِعْرِ الْمُتَنَبِّي، وَجَمَعَهَا فِي كِتَابٍ وَضَعَهُ لِسَيِّدِهِ فَخْرِ الدَّوْلَةِ بْنِ بُوَيْهٍ، وَأَسْمَاهُ: (الْأَمْثَالُ السَّائِرَةُ مِنْ شِعْرِ الْمُتَنَبِّي). كَمَا ذَكَرَ أَبُو مَنْصُورٍ الثَّعَالِبِيُّ شَطْرَ الْبَيْتِ، فِي كِتَابِهِ: (التَّمْثِيلُ وَالْمُحَاضَرَةُ)، ضِمْنَ فَصْلٍ (الْأَمْثَالُ الصَّادِرَةُ عَنِ الْأَبْيَاتِ السَّائِرَةِ)، وَبَعْدَمَا أَوْرَدَهُ فِي (يَتِيمَةِ الدَّهْرِ)، عَلَّقَ عَلَيْهِ قَائِلًا: «هَذَا كَلَامٌ مَا لِحُسْنِهِ غَايَةٌ». لَقَدْ ثَبَتَتِ الْجِنَايَةُ، وَأَقَرَّ الْجَانِي بِجِنَايَتِهِ، وَحَانَ وَقْتُ إِنْفَاذِ الْعُقُوبَةِ، حِينَهَا يُنْدَبُ إِلَى الْعَفْوِ، وَالصَّفْحُ مِنْ شِيَمِ الْأَحْرَارِ، وَالرِّفْقُ بِالْجَانِي مِنَ الإِحْسَانِ، وَالإِحْسَانُ قَيْدٌ يُقَيِّدُ الْمُحْسَنَ إِلَيْهِ، كَمَا قَالَ أَبُو الطَّيِّبِ، فِي بَيْتِهِ الْبَدِيعِ: وَقَيَّدْتُ نَفْسِي فِي ذَرَاكَ مَحَبَّةً * وَمَنْ وَجَدَ الإِحْسَانَ قَيْدًا تَقَيَّدَا فَهَذَا الْقَيْدُ الَّذِي يُقَيِّدُ الْجَانِي نَفْسَهُ بِهِ، ثَمَرَةٌ مِنْ ثِمَارِ عِتَابِ الْجَانِي، بِالرِّفْقِ بِهِ. وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ الرِّفْقَ لَا يَكُونُ فِي شَيْءٍ إِلَّا زَانَهُ، وَلَا يُنْزَعُ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا شَانَهُ»، رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَقَالَ فِي حَدِيثٍ آخَرَ: «إِنَّ اللَّهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ فِي الْأَمْرِ كُلِّهِ»، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
(131) المَوتُ أَعذَرُ لِي ، والصَّبْرُ أَجَمل بِي
يَقُولُ: إِنَّ الْمَوْتَ أَعْذَرُ مِنْ عَيْشِ الذَّلِيلِ، فَأَنَا أُفَضِّلُ الْمَوْتَ عَلَى الذُّلِّ. فَإِذَا قُتِلْتُ وَأَنَا مُقْبِلٌ طَالِبٌ لِلْعَلْيَاءِ فَإِنَّ الْمَوْتَ سَيَعْذُرُنِي، وَسَيَكُونُ عُذْرًا لِي، بِأَنِّي قَدَّمْتُ حَيَاتِي مِنْ أَجْلِ غَايَاتٍ سَامِيَةٍ، وَأَهْدَافٍ نَبِيلَةٍ، وَمَعَالِي الْأُمُورِ، وَهُوَ مِمَّا يُجَمِّلُ السِّيرَةَ، وَيَنْقِي السَّرِيرَةَ، وَيَرْفَعُ الْقَدْرَ، وَيُعْلِي الذِّكْرَ. وَالصَّبْرُ عَلَى الْمَصَائِبِ، وَالتَّجَلُّدُ فِي النَّوَائِبِ، أَجْمَلُ بِي مِنَ الْجَزَعِ، فَالصَّبْرُ يُؤَدِّي إِلَى الْفَوْزِ بِالنِّهَايَةِ، كَمَا وَعَدَ اللَّهُ الصَّابِرِينَ وَبَشَّرَهُمْ، فَقَالَ سُبْحَانَهُ فِي كِتَابِهِ: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ}. كَمَا إِنَّ الصَّبْرَ يَمْنَعُ شَمَاتَةَ الْأَعْدَاءِ. وَفِي ذَلِكَ قَوْلُ أَبِي ذُؤَيْبٍ الْهُذَلِيِّ، فِي رِثَاءِ أَوْلَادِهِ الْخَمْسَةِ، الَّذِينَ قَتَلَهُمُ الطَّاعُونُ:
وَتَجَلُّدِي لِلشَّامِتِينَ أُرِيهِمُ * أَنِّي لِرَيْبِ الدَّهْرِ لَا أَتَضَعْضَعُ
يُرِيدُ أَنَّهُ يَتَصَبَّرُ، لِيُرِيَ الشَّامِتِينَ صَلَابَتَهُ، وَثَبَاتَهُ، وَعَدَمَ انْكِسَارِهِ أَمَامَ مَصَائِبِ الْحَيَاةِ، وَفَوَاجِعِ الدُّنْيَا.
(132) والبَرُّ أَوسَعُ والدُّنيَا لِمَنْ غَلَبَا
يَقُولُ: إِنَّ السَّعْيَ فِي الْأَرْضِ وَالْخُرُوجَ إِلَى الْبَرِّ، أَوْسَعُ مِنْ ضِيقِ بَيْتٍ أَرْتَهِنُ بِالْإِقَامَةِ بَيْنَ جُدْرَانِهِ، أَوِ الْبَقَاءَ فِي بَلَدٍ ضَاقَ بِي وَضَيَّقَ عَلَيَّ سُبُلَ رِزْقِي، لِذَا سَأَجِدُّ سَاعِياً فِي مَنَاكِبِ الْأَرْضِ، مُبْتَغِياً مِنْ فَضْلِ اللَّهِ، بَاحِثًا عَنِ الرِّزْقِ. فَلَا يَلِيقُ بِمَنْ يَجِدُ السَّعَةَ أَنْ يَقْبَلَ بِالضِّيقِ، وَلَا يَسْتَوِي ضِيقٌ وَسَعَةٌ، يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً}. وَفِي الْبَابِ يَقُولُ الطُّغْرَائِيُّ:
إِنَّ الْعُلَى حَدَّثَتْنِي وَهْيَ صَادِقَةٌ * فِي مَا تُحَدِّثُ إِنَّ الْعِزَّ فِي النُّقَلِ
يَعْنِي أَنَّ الْمَرَاتِبَ الْعَالِيَةَ وَالدَّرَجَاتِ الرَّفِيعَةَ، قَالَتْ لَهُ، وَصَدَقَتْ فِي قَوْلِهَا، إِنَّ تَحْقِيقَ الْعِزِّ وَمُفَارَقَةَ الذُّلِّ يَكُونُ فِي الِانْتِقَالِ مِنْ مَكَانٍ إِلَى آخَرَ، وَمِنْ بَلَدٍ إِلَى غَيْرِهِ، فَكُلَّمَا أُوْصِدَتْ أَبْوَابُ الرِّزْقِ بِوَجْهِكَ فِي مَكَانٍ، فَانْتَقِلْ مِنْهُ إِلَى غَيْرِهِ، فَإِنَّ فِي ذَلِكَ عِزُّكَ. وَقَوْلُهُ (وَالدُّنْيَا لِمَنْ غَلَبَا): أَيْ أَنَّ الدُّنْيَا تَؤُولُ الْغَلَبَةُ فِيهَا لِمَنْ يُزَاحِمُ النَّاسَ بِالْمَنَاكِبِ، وَيَجْتَهِدُ فِي تَحْصِيلِ رِزْقِهِ، وَلَا يَغْلِبُ فِيهَا الَّذِي آثَرَ الدَّعَةَ، وَاسْتَحَبَّ الرَّاحَةَ، وَلَمْ يَبْذُلِ الْأَسْبَابَ فِي السَّعْيِ فِي الطَّلَبِ، وَالِاجْتِهَادِ فِي الْعَمَلِ. وَفِي ذَلِكَ لِأَبِي الْأَسْوَدِ الدُّؤَلِيِّ قَوْلُهُ:
وَمَا طَلَبُ الْمَعِيشَةِ بِالتَّمَنِّي * وَلَكِنْ أَلْقِ دَلْوَكَ فِي الدِّلَاءِ
تَجِئْكَ بِمَلْئِهَا طَوْرا وَطَوْراً * تَجِئْكَ بِحَمْأَةٍ وَقَلِيلِ مَاءِ
وَلَا تَقْعُدْ عَلَى كَسَلٍ تَمَنَّى * تُحِيلُ عَلَى الْمَقَادِرِ وَالْقَضَاءِ
فَإِنَّ مَقَادِرَ الرَّحْمَنِ تَجْرِي * بِأَرْزَاقِ الرِّجَالِ مِنَ السَّمَاءِ
مُقَدَّرَةٌ بِقَبْضٍ أَوْ بِبَسْطٍ * وَعَجْزُ الْمَرْءِ أَسْبَابُ الْبَلَاءِ