وَمَا زِلْنَا نَعْرِضُ أَعْجَازَ أَبْيَاتِ شِعْرٍ لِأَبِي الطَّيِّبِ المُتَنَبِّي، سَارَتْ أَمْثَالاً، فَقَدْ أَقَرَّ المُحِبُّ وَالمُبْغِضُ بِأَنَّ مِنْ مَزَايَا شِعْرِ أَبِي الطَّيِّبِ، إِرْسَالُ الْمَثَلِ فِي أَنْصَافِ الْأَبْيَاتِ.
(128) وَمَنْ يَسُدُّ طَرِيقَ العَارِضِ الهَطِلِ
العَارِضُ: السَّحَابُ العَظِيمُ الَّذِي يَعْرِضُ فِي الأُفُقِ كَالجَبَلِ، وَسُمِّيَ عَارِضاً لِأَنَّ السُّحُبَ تَعْرِضُ أَمَامَ أَعْيُنِ النَّاسِ، خِلَالَ سَيْرِهَا فِي السَّمَاءِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي تَصْوِيرِ سَحَابَةٍ تَوَهَّمَهَا قَوْمُ عَادٍ مَطَراً: {فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَٰذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا}، وَهِيَ فِي الحَقِيقَةِ سَحَابَةُ عَذَابٍ، لَا رَحْمَةٍ، كَمَا أَخْبَرَ تَعَالَى، بِقَوْلِهِ: {بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ}.
وَالضَّمِيرُ يَعُودُ عَلَى العَذَابِ، أَيْ: فَلَمَّا رَأَوْا العَذَابَ الَّذِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مُعْتَرِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ ظَنُّوهُ مَطَراً.
قَالَ الأَعْشَى:
يَا مَنْ يَرَى عَارِضاً قَدْ بِتُّ أَرْقُبُهُ * كَأَنَّمَا البَرْقُ فِي حَافَاتِهِ الشُّعَلُ
وَلِلْفَرَزْدَقِ قَوْلُهُ:
يَا مَنْ رَأَى عَارِضاً أَرِقْتُ لَهُ * بَيْنَ ذِرَاعَيْ وَجَبْهَةِ الأَسَدِ
وَالعَارِضُ: السَّحَابُ الَّذِي يَعْتَرِضُ فِي أُفُقِ السَّمَاءِ. وَالعَارِضُ: السَّحَابُ المُطِلُّ يَعْتَرِضُ فِي الأُفُقِ. الهَطِلُ: المَطَرُ المُتَفَرِّقُ العَظِيمُ القَطْرِ المُتَتَابِعُ.
قَصَدَ الشَّاعِرُ بِهَذَا الشَّطْرِ مِنَ البَيْتِ، التَّعْبِيرَ عَنْ مَعَانِي الخَيْرِ، فِي أَبْرَزِ صُورَةٍ، وَأَجْلَى هَيْئَةٍ، وَأَوْضَحِ وَصْفٍ. فَالمَطَرُ خَيْرٌ يَسُوقُهُ اللَّهُ إِلَى القُلُوبِ المَيِّتَةِ فَيُحْيِيهَا، وَهُوَ سُبْحَانَهُ القَائِلُ: {وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا المَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ}.
لِذَلِكَ سُمِّيَ المَطَرُ غَيْثاً.
وَفِي عَجُزِ البَيْتِ صَوَّرَ الشَّاعِرُ الخَطَّ الزَّمَنِيَّ لِأُعْطِيَةِ الرَّحْمَنِ (المَطَرِ)، بِدَايَةً بِمَنْظَرِ (العَارِض): السَّحَاب الَّذِي هُوَ أَوَّلُ بَشَائِرِ الغَيْثِ وَالحَيَاةِ، وَالَّذِي يَتَبَيَّنُ مِنْ شَكْلِهِ أَنَّهُ وَدُودٌ، وَلُودٌ، مُحَمَّلَةٌ بِالمَطَرِ العَظِيمِ، قِيمَةً، وَحَجْماً، اسْماً، وَرَسْماً.
وَكَانَ المُتَنَبِّي قَالَ فِي أَحَدِ أَنْصَافِ أَبْيَاتِهِ:
كُلُّ مَا يَمْنَحُ الشَّرِيفُ شَرِيفُ
وَهُنَا تَظْهَرُ بِوُضُوحٍ العَلَاقَةُ البَلَاغِيَّةُ بَيْنَ شَطْرَيِ البَيْتَيْنِ، فَكَمَا أَنَّ الغَيْثَ الشَّرِيفَ يَمْنَحُ خَيْراً شَرِيفاً هُوَ المَاءُ، فَكَذَلِكَ الإِنْسَانُ الشَّرِيفُ لَا يُنْتَظَرُ مِنْهُ إِلَّا الخَيْرُ وَالشَّرَفُ. وَسَنَرَى هَذَا الشَّطْرَ وَاقِعاً حَيَاتِياً فِي غَيْثِ الرَّحْمَةِ وَالبَرَكَةِ، وَمَطَرِ السَّمَاءِ، وَأَعْطِيَةِ الكَرِيمِ الرَّحْمَنِ، سَحَاباً مُمْطِراً، بِمَطَرٍ كَثِيفٍ، مَنْظَرُهُ وَمَخْبَرُهُ، سَعَادَةٌ لِلْخَاطِرِ، وَمُتْعَةٌ لِلنَّاظِرِ. هَذَا العَارِضُ الهَطِلُ الَّذِي يَبْعَثُهُ اللَّهُ رَحْمَةً لِلْبِلَادِ وَالعِبَادِ، لَا يُسَدُّ، وَلَا يُرَدُّ، وَمِنْ كَثْرَتِهِ لَا يُعَدُّ، لَا فِي هُطُولِهِ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ، وَلَا فِي تَحَوُّلِهِ سَيْلاً يَجْرَحُ وَجْهَ الفِيَافِي وَالأَزِقَّةِ وَالشَّوَارِعِ وَالمَسَاحَاتِ، وَهُوَ مُتَدَفِّقٌ مُنْدَفِعٌ فِي سَيْرِهِ عَلَى الأَرْضِ.
لَقَدْ لَفَتَ الشَّاعِرُ إِلَى خَيْرِيَّةِ هَذَا العَارِضِ الهَطِلِ، بِسُؤَالٍ اسْتِنْكَارِيٍّ، لَا يَحْتَاجُ إِلَى إِجَابَةٍ، لِبَدَهِيَّةِ الجَوَابِ، فَكَأَنَّهُ يَسْتَنْكِرُ عَلَى مَنْ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى مَنْعِ الخَيْرِ الَّذِي يَفِيضُ مِنْ نُفُوسِ الخَيِّرِينَ، أَوْ كَأَنَّهُ يَتَعَجَّبُ مِمَّنْ يَتَوَهَّمُ أَنَّ بِإِمْكَانِهِ رَدَّ عَطَاءٍ مُتَدَفِّقٍ.
وَيُمْكِنُ البِنَاءُ عَلَى ذَاتِ المَعْنَى الوَارِدِ فِي شَطْرِ البَيْتِ، بِالقَوْلِ: أَدَبُكَ الَّذِي قَوَّمْتَ نَفْسَكَ، لِيَكُونَ مِنْ عَادَاتِهَا وَأَخْلَاقِهَا وَسَجَايَاهَا، مَنْ يَسُدُّهُ وَيَمْلِكُ مَنْعَهُ، مِنْ قَلِيلِي الأَدَبِ؟!
ارْفَعْ كَلِمَتَيْ (العَارِضِ الهَطِلِ)، وَضَعْ مَكَانَهُمَا أَيَّ كَلِمَتَيْنِ دَالَّتَيْنِ عَلَى الخَيْرِ بِصُوَرِهِ وَأَشْكَالِهِ، مِثْلَ (الكَرَمِ الفَيَّاضِ)، أَوْ (العَفْوِ الجَمِيلِ)، أَوْ (الوَدِّ الصَّادِقِ)، وَسَيَسْتَقِيمُ المَعْنَى، وَسَتَكُونُ الجُمْلَةُ جُمْلَةً مُفِيدَةً، بَالِغَةَ الدَّلَالَةِ وَالعُمْقِ.