(101) مَا الخِلُّ إِلَّا مَنْ أَوَدُّ بِقَلْبِهِ * وَأَرَى بِطَرْفٍ لَا يَرَى بِسَوَائِهِ
الخِلُّ والخَلِيْلُ: وَاحِدٌ وهو الصَّدِيق. الخِلُّ والخِلَّةُ، بالكسر: تعني الصَدَاقَة والمؤَاخَاةَ وعِلاقَةً تَسُودُهَا المَوَدَّةُ والمَحَبَّةُ، والخُلَّةُ بالضم مثلها بالكسر. والصَّدِيقُ يُقَال للذَّكَرِ والأُنْثى، والمُفرَد والجمع، ومثله الخُِلَّة والخُِلُّ (يجوز كسر الخاء أو ضمها في الكلمتين)، تُقَال للذَّكَرِ والأُنْثى. (تاج العروس)، بتصرف.
المعنى: المُحِب المشفق الودود، والخليل المخلص، يُشِيعُ قلبه ما في داخله من محبة لأصحابه، وهو مُنصف في تعامله مع الجميع، بعيدٌ عن مسالك السوء، نافِعٌ كالغيث، وإذا لم ينفع لم يَضُر.
وهؤلاء اللحاة ليس بينهم صديق مشفق، ولا خليل ناصح، فأصغي إلى لومه، إذ يساعد الصديق صديقه، ويحب ما يحب، ويكره ما يكره، وصديقي هو من يوافقني، أكادُ -من توافقنا- أُحِبُّ بقلبه، وأرى بعينه!
ولُبُّ البيت: ليس لك خليل إلا نفسك، وهو معنى بيت المتنبي، القائل:
خَلِيلُكَ أَنْتَ لَا مَنْ قُلْتَ خِلِّي * وإِنْ كَثُرَ التَّجَمُّلُ والكَلَامُ
أي: لا خليل لكَ إلَّا أَنْتَ، والمرء خليل نفسه، فمن تعُدّه خليلاً ليس بخليل، وإن ادَّعى التودُّدَ وتكلَّف اللطفَ وتصنَّع المحبةَ.
يؤيد المتنبي، قول الزبيدي، في (تاج العروس):
«خلِيلُكَ: قَلْبُكَ، عَن ابنِ الأعرابيّ. وقولُ لَبِيدٍ:
وَلَقَد رأى صُبحٌ سَوادَ خَلِيلِه * مِنْ بَين قائمِ سَيفِهِ والمِحْمَلِ
(صُبحٌ): كَانَ مِن مُلُوكِ الحَبَشْة، و(خَلِيلُه): كَبِدُه، ضُرِبَ ضَربةً فَرَأى كَبِدَ نَفسِه ظاهِرةً. أَو (خَلِيلُك): أَنْفُكَ».
(102) لَا تَعْذِرِ المُشْتَاقَ في أشْوَاقِهِ * حَتَّى يَكُونَ حَشَاكَ في أَحْشَائِهِ
هذا البيت من قلائد المتنبي، وفرائد شِعرِه، وهو بيتُ غَزَلٍ، لكنه يفيض حكمة وحصافة.
البيت يُؤكد قاعدة شرعية شهيرة، تقول: «الحكم على الشيء فرعٌ عن تصوره».
وهي قاعدة منطقية، قررها العقلاء قبل الإسلام وبعده، وتطبيقها في شؤون الحياة ضروري لا غنى عنه.
والمتنبي في بيته يقول لمن يلوم أهل الشوق على شوقهم: إنك ستعذرهم إذا كان حشاك في أحشائهم، يتحرق شوقاً ولهفة. فإذا كان داخلك مثل داخله، يُحِسُ بإحساسه، ويشعر بمشاعره، حينها تكون تصوَّرْتَ حالَه، فيحق لك الحكمُ عليه.
ونحو ذلك، قول أبي الطيب:
(103) وَعَذَلْتُ أَهْلَ العِشْقِ حَتَّى ذُقْتُهُ * فَعَجِبْتُ كَيْفَ يَمُوتُ مَنْ لَا يَعْشَقُ؟
عَذَلْتُ: العَذْلُ هو اللَّوْمُ، وإذا اشتَدَّ صار توبيخاً (والتوبيخ: هو أشد العذل)، وربما تقريعاً (والتقريع: هو الإيجاع باللوم).
والعذل عامٌ يشمل أنواع اللوم كافة، لكن أَغلبه يكون في العِشق، فيلوم العاذل العاشقَ على عشقه. وقد امتلأت دواوين الشعر العربي بذكر أنواع المعاناة التي سببها العُذَّالُ للعُشَّاق، وما صنع أهلُ العذل من آلام حسية ومعنوية في أحشاء أهل العشق.
يقول: لَمَّا جَرَّبتُ العِشقَ توقفتُ عن عذل العُشَّاق، فمكابدة العشق، ومعاناة العُشَّاق، ولوعة الفراق، وحرقة الاشتياق، لا يعرفها إلا من اصطلى بنارها، وتقلب في رمضائها.
قال الواحدي:
«يذهَبُ قومٌ في هذا البيت إلى أنَّه مِن المَقْلُوب، على تقدير: كيف لا يموتُ مَن يَعْشَقُ، يعني أنَّ العِشْقَ يوجِبُ المَوتَ لِشِدَّته، وإنَّما يَتَعَجَّبُ ممَّن يَعشَقُ ثم لا يموتُ، وإنَّما يُحْمَلُ على القَلْبِ مَا لَا يَظْهَرُ المعنى دونَه، وهذا ظاهرُ المعنى مِن غير قلبٍ، وهو أنَّه يُعَظِّمُ أمرَ العِشْقِ، ويجعلُه غايةً في الشِّدَّة.
يقولُ: كيف يكونُ مَوتٌ مِن غير عِشْقٍ، أي: مَن لم يَعْشَق يجبُ ألَّا يموتَ، لأنَّه لم يُقَاسِ ما يُوجِبُ الموتَ، وإنَّما يوجِبُه العِشْقُ. وقالَ بعضُ مَن فَسَّرَ هذا البيت: لمَّا كانَ المُتَقَرِّرُ في النُّفوسِ أنَّ الموتَ في أعلا مَراتِبِ الشِّدَّة، قالَ: لمَّا ذُقْتُ العِشقَ وعرفتُ شِدَّتَه، عَجِبتُ كيف يكونُ هذا الأمرُ المُتَّفَقُ على شِدَّتِه غيرَ العِشْقِ».
ثم يقول:
(104) وَعَذَرْتُهُمْ، وَعَلِمْتُ ذَنْبِي أنَّنِي * عَيَّرْتُهُمْ، فَلَقِيْتُ فِيهِ مَا لَقُوا
لمَّا ذُقْتُ مَرَارةَ العِشْقِ، وما فيه مِن صنوف البَلاءِ، وأنواع الشقاء، عَذَرْتُ العُشَّاقَ على انغماسهم في العشق، وفهمتُ وقَدَّرتُ سبب صبابتهم وهيامهم ووجدهم، وأعتَرِفُ بِذَنبِي في تَعْيِيرِهم بالعشق، وابْتُلِيتُ بلوعة الحب، ولاعج العشق، مثل بلواهم، ولَقِيتُ شَدَائِد الهيام، واحترقت بكمد الاشتياق، وسهاد الأرق في الهوى، وفتون الغرام مثلمَا جرى لهم.
قال ابن الأثير في (المثل السائر) فيما اعتبره نثراً لبيت القصيد:
«لا تعذل المحبَّ في ما يهواه، حتى تطوي القلب على ما طواه»، وزاد: «إذا اختلفت العينان في النظر، فالعذل ضرب من الهذر».
وتابعه ابن أبي الحديد، في (الفلك الدائر على المثل السائر)، فقال «لو كنت تود بقلبي، وتراني بطَرْفي لعَذَرتني فيما أُبدِي، ورحمتني مما أُخْفِي»، وفي هذا إشارة إلى قوله في هذه القصيدة:
ما الخل إلا من أود بقلبه * وأرى بطرف لا يرى بسوائه