(84) مَنْ كَانَ فَوقَ مَحَلِّ الشَّمْسِ مَوضِعُهُ * فَلَيسَ يَرْفَـعُـهُ شَـيءٌ وَلَا يَـضَعُ
يقولُ للممدوح: لَقَدْ بَلَغْتَ مِنَ الرِّفْعَةِ والعُلُوِّ وَالسُمُوِّ مَكَانَةً ومَنْزِلَةً هِيَ أَعلَى مِنْ مَحَلِّ الشَّمْسِ ومَكَانِهَا، وَمَنْ ارْتَقَى هذا المَوْضِعَِ فَقَدْ بَلَغَ من الرِّفعَةِ مَبْلَغَـاً لَا يَعْلُو عليه مِنَ الأَشْخَاصِ وَلَا مِنَ الأَشْيَاءِ شَيءٌ، وَلَا يَخْفِضُهُ.
وَمِنَ اللَطِيفِ أَنَّ المُتَنَبِّي لَمْ يَكْتَفِ بِجَعْلِ مَمْدُوْحِهِ يَبْلُغُ مَنْزِلَةَ الشَّمْسِ على عُلُوِّهَا، بَلْ بَالَغَ في مَدْحِهِ، فجَعَلَهُ فَوْقَ عُلُوِّ الشَّمْسِ!
ورُبَّمَا حَدَّدَ للمَمدُوْحِ مَوْضِعاً فَوْقَ الشَّمْسِ، لِأَنَّ الشَّمْسَ تَتَحَرَّكُ، فَمَحَلهَا بَينَ صُعُودٍ وَهُبُوطٍ، وَلَم يجعلِ الممدوحَ في مَحَلِّ الشَّمْسِ، فَيَهْبِط مَعَهَا إذا انخفَضَ مَوْقِعُهَا!
وهذا كثيرٌ في شِعْرِ العَرَبِ، وأَصْلُهُ قَوْل زُهَيْر بن أبي سُلمَى:
لَوْ كَانَ يَقْعُدُ فَوْقَ الشَّمْسِ مِنْ كَرَمٍ * قَوْمٌ بِأَوَّلِهِمْ أَوْ مَجْدِهِمْ قَعَدُوا
(85) وَإِنْ كَانَ ذَنْـبِـي كُلَّ ذَنْبٍ فَإِنَّهُ * مَحَا الذَّنْبَ كُلَّ المَحْوِ مَنْ جَاءَ تَائِـبَـا
يقولُ: حَتَّى لَوْ أَذنَبتُ ذَنْبـاً يُعادِلُ الذُنُوبَ كُلَّهَا، فَإِنَّ التَوبَةَ تَمْحُو الذُنُوبَ كُلَّهَا مَهْمَا عَظُمَت وَكَثُرَت. إِنَّ صِدقَ تَوبَتِهِ يُقَوِّي ثِقَتَهُ بِنَتِيجَتِهَا، ومَحْوِهَا الذُنُوْبَ كَافَّةً، وَجَعْلِهَا التَائِبَ بِلَا خَطِيْئَةٍ.
والبيتُ يستنِدُ إلى قولِ النَبِيِّ ﷺ: (التَّائِبُ مِنْ الذَّنْبِ كَمَنْ لَا ذَنْبَ لَهُ). رواه ابن ماجه، وصححه ابن باز. جاء في بعض روايات البيتُ:
وَإِنْ كَانَ ذَنْـبِـي كُـلَّ ذَنْـبٍ فَـإِنَّـهُ * مَحَا الذَّنْبَ كُلَّ الذَّنْبِ مَنْ جَاءَ تَائِـبَـا
(86) وَكَمْ ذَنْبٍ مُوَلِّدُهُ دَلَالٌ * وَكَمْ بُعْدٍ مُوَلِّدُهُ اقْتِرَابُ
الدَلَالُ، في العَادَةِ دَلِيلٌ على الحُبِّ، لَكِنَّ الشَّاعِرَ يُخبِرُنَا أَنَّ الدَّلَالَ يُؤَدِّي بِصَاحِبِهِ إِلَى التَّنَمُّرِ على القَوَاعِدِ، وتَركِ السَّيْرِ على الجَادَّةِ، وَذَلِكَ يَحصُلُ بِعَدَمِ احتِرَامِ الحُدُودِ، ومن تَجَاوَزَ الحَدَّ وَقَعَ في المَزْلَقِ، فَلا عَجَبَ أن يُوَلِّدَ الدَّلَالُ ذُنُوباً!
والقُرْبُ قَدْ يَجْعَلُ القَرِيبَ مُفْرِطاً في ثِقَتِهِ بِأَنَّ قُرْبَهُ دَائِمٌ، وَأَنَّ مَكَانَةَ القَرِيْبِ لَهُ ضَامِنَةٌ، فَتَأْخُذُهُ العِزَّةُ بِالإِثْمِ، وَيَتَجَاوَزُ الحَدَّ، جَاهِلاً أَو غَافِلاً، أَنَّ الحَدَّ إِنَّمَا سُمِّيَ حَدَّاً لِحِدَّتِهِ، فَهُوَ قَاطِعٌ بَتَّارٌ كالسَّيفِ، وَمَن تَجَاوَزَ الحَدَّ أَمْضَى الحَدُّ نَصْلَهُ فِيهِ.
كَانَ عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ، يُولِي عبدَ اللهِ بنَ عباسٍ اهتماماً ويُقَرِّبُه لعِلْمِهِ، فقَالَ الْعَبَّاسُ لابنِه ناصِحاً: «يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى هَذَا الرَّجُلَ يُدْنِيكَ وَإِنِّي مُوْصِيكَ بِخِلَالٍ: لَا تُفْشِيَنَّ لَهُ سِرًّا، وَلَا تَخُونَنَّ لَهُ عَهْداً، وَلَا تَغْتَابَنَّ عِنْدَهُ أَحَداً، وَلَا تَطْوِين عَنْهُ نَصِيحَةً».
(87) لَا بِقَوْمِي شَرُفْتُ بَلْ شَرُفُوا بِي * وبِنَفسِي فَخَرْتُ لَا بِجُدُودِي
قَالَتِ الرُّوَاةُ: لَوِ اقْتَصَرَ المُتَنَبِّيّ عَلَى هَذَا البَيْتِ، لَكَانَ أَلْأَمَ النَّاسِ نَسَبَـاً، لَكِنَّهُ قَالَ فِي البَيْتِ التَّالِي، عَنْ قَوْمِهِ وَجُدُودِهِ:
وَبِهِمْ فَخْرُ كُلِّ مَنْ نَطَقَ الضَّا * دَ وَعَوْذُ الجَانِي وَغَوْثُ الطَّرِيدِ
افْتِخَارُ المُتَنَبِّيّ بِنَفْسِهِ لَا بِنَسَبِهِ يَسْتَحِقُّ الاحْتِرَامَ وَالتَّقْدِيرَ، لَا التَّقْلِيلَ وَالتَّحْقِيرَ. فَهُوَ لَمْ يُنْكِرْ فَضْلَ قَوْمِهِ، بَلْ أَكَّدَ فِي البَيْتِ التَّالِي أَنَّهُمْ مَصْدَرُ فَخْرٍ لِكُلِّ العَرَبِ، وَأَنَّهُمْ المَلْجَأُ لِمَنْ وَقَعَ فِي الجِنَايَةِ، حَيْثُ يَعُوذُ بِهِمْ لِيَنَالَ الأَمَانَ وَالسَّلَامَةَ، كَمَا أَنَّهُمْ مَلَاذُ الطَّرِيدِ، الَّذِي يَسْتَغِيثُ بِهِمْ فَيُغَاثُ وَيُكْرَمُ.
وَالافْتِخَارُ بِالنَّفْسِ، هُوَ مَا كَانَ بَعْضُ العُلَمَاءِ يَسْأَلُونَ عَنْهُ فِي الرِّجَالِ، بِقَوْلِهِمْ: «أَعِصَامِيٌّ هُوَ أَمْ عِظَامِيٌّ؟»، أَي: هَلْ هُوَ مِمَّنْ يَفْتَخِرُ بِأَجْدَادِهِ وَسَلَفِهِ، وَهُوَ خَالٍ مِمَّا كَانُوا عَلَيْهِ؟ أَمْ هُوَ مِمَّنْ يَصْنَعُ فَخْرَهُ بِنَفْسِهِ؟ فَالعِصَامِيُّ يَبْنِي مَجْدَهُ بِجُهْدِهِ، بَيْنَمَا العِظَامِيُّ يَفْتَخِرُ بِعِظَامِ أَسْلَافِهِ الرَّاحِلِينَ.
وَقَدِ اسْتُخْدِمَ لَفْظُ العِظَامِ تَحْقِيراً لِلِافْتِخَارِ بِأَجْدَادٍ بَاتُوا عِظَاماً بَالِيَةً. وَهَذَا مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِ الشَّاعِرِ:
نَفْسُ عِصَامٍ سَوَّدَت عِصَامَا
وعَلَّمَتْهُ الكَرَّ وَالإِقْدَامَا
وجَعَلَتْهُ مَلِكَـاً هُمَامَا