من قلائد شعر أبي الطيب المتنبي، قوله: أَنْكَرْتُ طَارِقَةَ الحَوادِثِ مَرَّةً ثُمَّ اعْتَرَفْتُ بِهَا فَصَارَتْ دَيدَنَا. يريد: كُنتُ أُقنع نفسي بأن لا وجود لحوادث الزمان ومصائب الدنيا، أعيش منكراً لها، لا أعترف بإمكان وقوعها، ولَمَّا اعترفتُ بها، صارت ديدنا، والديدن: هو العادة، فتكرر حدوثها.
لا يشتكي المتنبي، كما هو ظاهر، من الدهر وحوادثه، فقد دعكته التجارب، وصيرته بصيراً بالحياة وتدابيرها. ومن كان كذلك، عرف أن الحوادث، من سنن الحياة، وليس لمخلوق السلامة منها. يقول: تصفو الحياة لجاهل أو غافل… عمّا مضى فيها وما يتوقّع كما أن الحوادث سريعة الانقضاء، وفقا لأبي ذؤيب الهذلس، القائل: هل الدَّهرُ إلا ليلةٌ ونَهارُها… وإلا طلوعُ الشَّمْسِ ثُمّ غِيارُها؟ وهو ما دعا أبا الطيب لاعتبار هذه الطوارق عادة متكررة، وهنا يكمن لُبُّ قصده. أراد شاعرنا الكبير، أن يُحدثنا عن طبع البشر، وتفصيلُ ذلك أن اعتياد الإنسان ما لا يروق، لا يتأتى له بسهولة، فلا بد من ممانعة يبديها بداية، ثم يعود لعقله، فيُنبئه بأنْ لا مفر من الأمر، فيُسَلِّم به. في «مقاييس اللغة» قال ابن فارس: «الدَّالُ وَالرَّاءُ وَالْبَاءُ، الصَّحِيحُ مِنْهُ، أَصْلٌ وَاحِدٌ، وَهُوَ أَنْ يُغْرَى بِالشَّيْءِ وَيَلْزَمُهُ. يُقَالُ دَرِبَ بِالشَّيْءِ، إِذَا لَزِمَهُ، وَلَصِقَ بِهِ. وَمِنْ هَذَا الْبَابِ تَسْمِيَتُهُمُ: الْعَادَةَ، وَالتَّجْرِبَةَ: دُرْبَةً». وعنده، أيضا:«(دَأَبَ): الدَّالُ وَالْهَمْزَةُ وَالْبَاءُ، أَصْلٌ وَاحِدٌ، يَدُلُّ عَلَى مُلَازَمَةٍ وَدَوَامٍ. فَالدَّأْبُ: الْعَادَةُ وَالشَّأْنُ(…) وَدَأَبَ الرَّجُلُ فِي عَمَلِهِ، إِذَا جَدَّ… وَالدَّائِبَانِ: اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ».
وإذا سرت العادة أصبحت طبعاً، والطبع:«ما يقع على الإنسان بغير إرادة»، بحسب تعريفات الجرجاني. وقع المعري، على التعريف، فقال: الطَبعُ شَيءٌ قَديمٌ لا يُحَسُّ بِهِ وَعادَةُ المَرءِ تُدعى طَبعَهُ الثاني.
وما أكثر ما يبدو وقعُ الحوادث مُخيفاً ومُفجِعاً في الوهلة الأولى، ولكنه متى تحول إلى عادة، حفز هِمَّة المرء على الترقي فوق أوجاعه، وعلَّمه الصبرَ على الشدائد، وتسامى بروحه على المألوف من أحوال الدنيا وأهوال أيامها، فإذا هو بين الناس مُعافَى من علة أغلب البشر: الجزع والاضطراب. و لأبي العتاهية: تعودتُ مس الضرّ حتى ألِفته… وأسلمني حسن العزاء إلى الصبر . ولأنَّ: لِكُلِّ امرِئٍ مِن دَهرِهِ مَا تَعَوَّدَا… فالعادات كالبشر عليةٌ، وسفلة، فيها الحسنة، وفيها السيئة، وفي الأولى درجات تُرتقَى، وفي الثانية دركات تَهوي بصاحبها إلى سفيل المهاوي. وكما أن اعتياد الصبر على الحوادث، من محاسن العادات، فإن الدربة على عادات السوء، يؤصلها ويغرسها، فيصير اقتلاعها، من أصعب الصعب، وأجمل بقول جرير: تَعَوَّد صالِحَ الأَعمالِ إِنّي رَأَيتُ المَرءَ يَلزَمُ ما استَعادا وقياد ذلك، يجسده من يسوس النفس فيلجم جموحها، يقابله من يطلق لها العنان فتسوسه نفسه، وهي معادلة بسيطة جداً، وصعبة للغاية، حلَّهَا أبو ذؤيب، بقوله: وَالنَفسُ راغِبِةٌ إِذا رَغَّبتَها وإِذا تُرَدُّ إِلى قَليلٍ تَقنَعُ. ولذلك قالوا:«عادات السادات، سادات العادات»، فالسيد قائد عاداته، لا مَقودٌ بها، وقيادة عاداته، يُحَسِّنها، ولحسنها وُصفت بأنها سادات العادات. مُفزِعٌ للكبير، ألا يكون في مراتب العلو والسمو،، يا لجمال ما أبدع المتنبي في تصوير هذا المشهد، بحديثه عن كبيرٍ، قائلاً:
نُظِمَتْ مَواهِبُهُ عليهِ تَمَائِمًا فَاعْتَادَهَا فَإذا سَقَطْنَ تَفَزَّعَا